حين ضربتُ الأمثال ببعض السير الذاتية أثناء الحديث عن هذا اللون من السرديات، تذكرت فقيد الفكر العربي (عبدالوهاب المسيري) وسيرته المتميزة: أسلوباً وموضوعاً..
..والتي يحكي فيها رحلته الفكرية في البذور والجذور والثمر، وهي من السير الذاتية والموضوعية في آن، وإن تعمد نفي الظاهرتين، وكانت قراءتي لها في طبعتها الثالثة المنقحة بعد استفحال المرض الخبيث الذي أودى بحياته الحافلة بجلائل الأعمال، ونفيه الذاتية مرتبط بتجافيه عن تقصي الحياة الأخص كالزوجية والأبوية وعلاقاته الشخصية، وتلك حجة لا تقدر على نفي الذاتية، إذ الذاتية أوسع من ذلك، وحق القارئ في توصيف العمل يضارع حق المؤلف بل يفوقه، وبخاصة بعد ظهور المناهج النقدية الحديثة التي قطعت صلة المنتج وحكمت بموت المؤلف وخوَّلت القارئ من إنتاج النص من جديد في أجواء معرفية ومنهجية، وآلية ضاع فيها النص والمنصوص، على اعتبار أن الدال غير المدلول وتدفق النظريات من دلالة ونصوصية وبنيوية وتفكيكية وتحويلية حولت المشهد إلى ملاعب جِنَّة، ومع ما أتاحته من توسع في الآفاق المعرفية والدلالية إلا أنها أجهضت حق المرسل وحكَّمت القارئ وأسعفته بنظريات التأويل والتفكيك.
وسيرة المسيري حين تخضع لهذه الآليات والمناهج ستكون خلقاً آخر قد تخالف رؤيته وموقفه منها، ولن نفرغ لفك الاشتباك ولا الاسترسال مع عشاق هذه النظريات والمصطلحات المترجمة والمعرَّبة والمنقولة فذلك يبعدنا عن قراءة السيرة بالطريقة التي نراها أقدر على الكشف والتوصيل.
وإذ تكون سيرته التي بين أيدينا ترصد لتحولاتها الفكرية والمنهجية وتحكي قصة حياته بوصفه مثقفا عربياً جالد وجاهد وغامر، ولم يرض بما دون النجوم فإنها سيرة ذاتية بكل ما يحمله ذلك المصطلح الحديث من مفاهيم، وليس مهماً أن نختلف أو نتفق معه في تحديد النوع السردي، ولكن المهم أن نجد بهذا العمل الموسوعي بُلْغَة معرفية تتشعب لتأتي على مجالات مهمة في المسيرة الفكرية العالمية المعاصرة، ولربما تكمن القيم الجمالية لهذا المشروع بالرصد الدقيق لتحولات الفكر العالمي ومدى انعكاسه على الفكر العربي، ولأن المسيري من بُناة هذا الفكر، فإن تحولاته الذاتية أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يَرْويها.
والمسيري كأنداده ومجايليه من أدباء ومفكري المغرب ومصر والشام والعراق حار في مفازات الفكر المعاصر الذي تنازعته الماديات والروحانيات والعلم والإيمان وحين استغرقه العرض والتحليل لهذه التيارات وتلك الظواهر نفى أن يكون ما يكتبه من باب السرديات السيريَّة، وشيء آخر عضد رؤيته النافية كون هذه السيرة جزءا من مشروعه القيم: «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية» ولم يحمله على فصلها عن هذا المشروع إلا الاتساع والتشعب، إذ نيفت على سبعمائة صفحة وأحسبه قد وقع فيما وقع فيه «ابن خلدون» في المقدمة التي امتدت وتشعبت وأصبحت نظرية في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، وبقدر انتشارها وشيوعها فقد خَمُلَ تاريخه وتألقت مقدمته غير أن المسيري الذي ربما فكر أن يجعل السيرة الذاتية مقدمة للموسوعة حافظ على مكانة السيرة والموسوعة إذ لم تُنْس موسوعته، ولم تخمل سيرته، كما أنه لم يرتهن لأحدهما، وكل كتاب من كتبه تحسبه جوف الفراء.
وإذ لا نذهب معه في تحفظه؛ لأننا نقطع بأنها سيرة فكرية كما السيرة الشعرية أو الأدبية أو السياسية، والعلماء والساسة والمفكرون إنما ينطلقون من تخصصاتهم أو من اهتماماتهم، وما يكتبونه عن أنفسهم لا يقف عند حد الرصد التاريخي إنهم يبعثون برسائل ويطرحون آراء ورؤى ويريدون أن يشيعوا ما يعتقدون، ويودون احتواء الرأي العام وإقناعه بما يرون، فالمسألة في النهاية دعوة إلى فكر ولكنها تتخذ صيغاً متعددة وأساليب متنوعة، وليس في ذلك عيب؛ فكل مفكر هو في النهاية معلم وداعية في آن.
وتسجيل الممارسات الحياتية ربما يكون الهدف منه الاقتداء، وكم من عالم كانت سيرته قدوة صالحة، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا مصاحف يمشون في الأسواق، وعائشة -رضي الله عنها- تقول عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (كان خلقه القرآن)، وكل ما يقال من فعل أو ترك يُعدُّ من صميم السيرة الذاتية.
وقراءة هذه السيرة تبدي تخلي السارد عن هيمنة السرد التاريخي، وقد يَعُدُّه البعض خروجاً على مقتضيات السيرة الذاتية، غير أن طائفة من كتاب السِّير اعتمدوا هذا المنهج، ولم يحملهم الخلوص من التدرج الزمني على نفي السيرية.
وهو إذ نفى الذاتية فقد نفى الموضوعية على اعتبار أن من شرط الموضوعية تناول القضايا الفكرية المجردة؛ أي تناولها بعيداً عن ارتباطها بذات السارد، وإذ جعل القضايا الفكرية مرتبطة بوقائع محددة في حياته فإن هذا الربط ينفي الموضوعية، وتلك حجة أخرى لا تقدر على نفي الموضوعية، ولقد كانت للمفكر العربي الشيعي الماركسي (علي حرب) سيرة فكرية تحدث فيها عن خطاب الهوية؛ حيث أكد على تحرره من التبعية المذهبية والدينية، واستبعد لعبة المفاضلة، ولكنه مع هذا لم ينف سمة السيرة عن عمله، وقد نعود إلى قراءة تلك السيرة المثيرة والمتشائمة، لأنها جاءت دون عمل المسيري بمسافات بعيدة، وإن تحدث عن مشخصات فكره التمردي على الماضوية والهوية الدينية.
والمسيري الذي كان وفياً مع تراثه وانتمائه الحضاري حاول استبعاد الملمح السردي، وهذا العمل الثري والمثير يمثل رحلة فكرية مضنية كشفت عن عناصر تكوينه المعرفي والفكري، وقد تجنح إلى دراسة الوقائع لا إلى تسجيلها وتحليل التجارب الشخصية لا إلى التأريخ لها، ولعل رسم الخريطة المعرفية للذات القلقة المتسائلة من أصعب الممارسات لأنها في النهاية خارطة شمولية تستدعي شركاء الهمِّ، وهو في سيرته لم ينفصل لحظة واحدة عن مسار الفكر عربياً وعالمياً إذ أشار إلى المذاهب والظواهر والتيارات ثَوَّر جذورها الفكرية ومرجعياتها الفلسفية، ولم يكن مُسْتَعِيداً ساذجاً، وداء مشهدنا العربي تهافت المتسطحين، وتبني «أيديولوجيات» تنتفي معها حضارة الانتماء.
لقد جاءت تلك السيرة خلاصة حياة جادة تجلت فيها مرحلة التكوين من الجذور إلى التشكل، ولقد سمى تلك المرحلة بالبذور والجذور، فيما سمى المرحلة الثانية ب»الثمرة» معتمداً على تجلية النماذج الإدراكية والتحليلية، ولأن زبدة حياته الفكرية تمثلها «الموسوعة» فقد خصها بمزيد من العناية، وأجمل ما في هذه السيرة الحديث المستفيض والمتواصل عن كيفية تشكل الحياة الفكرية وتحولاتها في المشاهد العربية.
ولم تكن السيرة التي أراد لها المسار الصعب تاريخ حياة، وإن نثر هذا التاريخ في ثناياها كلما استدعته لحظة التحول، وجاذبيتها في التداعيات والاعترافات، فهو يمنح نفسه أكثر مما يستحق ولا يجد غضاضة في كشف أخطاء تصوراته وسرعة تحولاته، إذ لا يصبر على الرأي ولا يأخذه الاعتزاز بالتأثيم، وإذ بسط القول عن المجتمع الريفي التقليدي في مراتع صباه في «دمنهور» فإنه استصحب بساطته في مراحل حياته كلها.
وقيمة السيرة في وقفاته المتأنية أمام الظواهر الفكرية والمنهجية التي أضافت إلى إمكانياته ومدركاته مزيداً من الحصافة. واعترافه بفضل السابق وأثره فيمن خلف أسقط التشبع والادعاء عند من يظنون أنهم أطناب الحضارة وأوتادها، وما هم إلا تبع عجاف يجترون المتداول ويجمعون ما خف حمله وضؤل ثمنه من الذين لا يتجاوزون بجهودهم جهود النمل الذي يجمع ولا يتمثل، لقد كان بحق كالنحل تغدو خماصاً وتعود بطانا من مختلف الأزاهير ثم تمجه عسلاً مصفى.
وتلك السيرة جملة وثائق حدَّد فيها منطلقاته وموارده ومستخلصاته وأثر المذاهب والمناهج في مساره الفكري ورؤيته للكون والحياة.
وإذ أؤكد على وعيه التام بالظواهر الفكرية الحديثة أحيل إلى قراءة ما كتبه عن «العلمانية» أن الجزئية والشاملة، وتصالحه مع الجزئية وفق مبررات وحيثيات قد لا نتفق معه فيها و لكننا نحترم رؤيته وبعد نظره، وإلى قراءة ما كتبه عن «الحداثة» والفهم الناقص عند متلقيها في الأوساط العربية. ولأنه يمنح نفسه شرف الدفاع عن «الإنسان» و»الإيمان» فإنه يرفض التسليم ل»الحداثوية» و»العلمانوية» إن صحت الصياغتان، وتصور المفهومين والتفريق بين الصيغ ل»التاريخانية» و»الإسلاموية» ملاذ المرتبكين في تضارب المفاهيم وتفاوتها، وهو قد تحدث عن العلمانية بشقيها في كتاب مستقل من جزأين، وحديثه لم يكن محكوماً بالعاطفة وإنما هو معرفي عقلاني خالص، وكما أشرت من قبل فأنا هنا لست بصدد تحديد الموقف من آرائه، ولكنني أشير إلى عالم مسيطر على الموضوعات التي ألمَّ بها في السيرة، وفصَّل الحديث عنها في إسهامات مستقبلية، ويعتصر المختصر أن المسيري علم من أعلام الفكر المعاصر وسيرته الذاتية أو غير الذاتية وغير الموضوعية، كما يحلو له أن يسميها كوّة يطل منها الإنسان على عالمه الحافل بالتحولات الفكرية والسياسية، وإذ تكون سيرة «عبدالرحمن بدوي» دفاعاً عن الذات القلقة فإن سيرة المسيري كشف للذات المتأملة.