أكد ابن خلدون في مقدمته الشهيرة على حقيقة ارتباط الفكر بالواقع الاجتماعي (كنماذج إنتاج وعلاقات اجتماعية)، مشيراً إلى أن الحضارة نمط للحياة الاجتماعية ويرتكز على حقيقة العمران، وهي مشتقة من السمة الأساس للوجود البشري، وهو العمران المنطوي على منجزات مادية وروحية تشكل التركيبة الاجتماعية الواحدة، ويشترط عناصرها بعضها بعضا، ويتحدث ابن خلدون عن الاجتماع الإنساني الذي هو العمران وما يعرضه لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض. والعمران كان يعني في الأزمنة السابقة الدولة ودورتها العصبية، لكنه في الوقت الحاضر تجاوز هذا المفهوم الحصري إلى كيانات أخرى مثل المؤسسة أو الشركة أو المصنع أو الجمعية وغيرهم.. بمعان أخرى وحسب التفسير الخلدوني قد تسيطر صفات الإنسان المستمدة من بيئته، ومن أحوال مجتمعه أو (قبيلته)، على قراراته ورؤيته لكيفية إدارة مؤسسته أو شركته، فالإدارة قد تحل محل القبيلة في عصرنا الحديث، و تخضع حسب تلك الأحوال والطبائع الاجتماعية الموروثة إلى قوى وغرائز الطبيعة، وليس للأنظمة الإدارية الحديثة، أن تفرض قوتها بالغلبة والقهر، وبمعنى آخر أن يتصرف المدير كمصدر للقوة والسلطة في إدارته للمؤسسة، وفي علاقاته الإدارية مع المستشارين والمساعدين الإداريين، وبالتالي تتحول خبراتهم وجهودهم وأدواتهم الحديثة إلى (مطبخ لصنع مزيد من القوة والنفوذ)، وتدبير السبل التي تمنح المدير مزيداً من السلطة الإدارية.. بينما تختلف سمات الإداري الناجح الذي يبحث عن إنتاج وإنتاجية ذات جودة عالية متوفرة للجميع، ومنها تنمية العلاقات الإنسانية والاجتماعية الملائمة لتعزيز ثقافة العمل والإنتاج، فتوفير البيئة المناسبة للإبداع والابتكار وحرية تبادل الرأي أحد أسس برامج الإدارة المتقدمة، والتنفيذ الفوري للاقتراحات الإيجابية طريقة مثلى للوصول بالمؤسسة الى مرحلة أكثر تقدماً، وأثبت تعزيز الاتصالات المباشرة وإلغاء أشكال الاتصال الأخرى جدواها في تطبيقات علوم الإدارة.. على سبيل المثال قد تأخذ صفة الشرف الرفيع في علوم الإدارة في أن يكون النقد الموضوعي ومراجعة الأداء الوظيفي والإنتاج العملي خطا أحمر لا يمكن تجاوزه واعتداء سافراً لا يمكن القبول به، وأن يشوه طبيعة الكرم الحاتمي أساسيات العدالة والمساواة المفترض توفرها عند تقييم أداء الموظفين، وربما تحدد العصبية القبلية من يحظى بثقته في العمل بجانبه، وقد تصبح الأيديولوجية عين الرضا الأهم عند تقييم أو مكافأة العاملين في المؤسسة التي يرعاها إدارياً، وربما تتشكل في عرف تلك الإدارة أيضاً خاصة وعامة، فالخاصة الإدارية تصنع القرارات، وتختص بمعرفة أهدافها الإستراتيجية التي قد تدور في إطار مصلحتها الخاصة، وتشكل الحاجز المنيع ضد اختراقات صغار الموظفين.. فالمطلوب من العامة أو العاملين في دوائر الإنتاج تقبل القرارات بدون حق فهم مغزى أهدافها أو المشاركة من خلال إبداء الرأي حول جدواها، كذلك تختفي كل أساليب الإدارة الشفافة أو المرئية، حين تتداخل سلبيات الفكر الاجتماعي وعوامل الهدم مع أساليب الإدارة الحديثة، وتصبح الأساليب المتطورة أدوات تخدم تغلغل أخلاقيات وطبائع الفكر الاجتماعي، وبالتالي تتبدل أساليب الحوافز المادية والمكافآت إلى شعارات (الواجب) والطاعة والتضحية في سبيل المؤسسة، وذلك لقصر المكافأة والحوافز على عوامل أخرى، مما سيؤدي الى صعود ظاهرة التوحش أو النفور عند غير المستفيدين من حوافز الإدارة وفرص النجاح، وإلى خروجهم للبحث عن منافع جديدة في مؤسسات أخرى، والسبب يعود إلى تحول المؤسسة الإدارية إلى قبيلة منسجمة مع تقاليد الطبيعة وأخلاقياتها.. تعد النظرية البيولوجية إحدى نظريات الإدارة الحديثة، وتطرح مقولة: إن (المؤسسة الإدارية كائن حي، بمعنى أنها تولد ثم تنمو ثم تتهاوى ثم تموت)، ويحدد عمرها البيولوجي صفات بيئية، وطفرات إدارية، ومختصر القول: إن الهيكلة الإدارية أو المؤسسة الإدارية وحدة اجتماعية واقتصادية مرتبطة بعوامل من بيئتها، لكنها تتأثر إيجاباً بمعطيات التطور التكنولوجي والمفاهيم الإدارية الحديثة التي قد تكون سببا رئيسياً في دوام نجاحها، لكنها قد تنسجم مع مضامين وموروثات الفكر الاجتماعي، وقد يصل ذلك الاختلاف إلى حالة مرضية تؤدي إلى فنائها في وقت مبكر.