كنتُ قد أشرتُ في مقالة الأسبوع الماضي إلى شيء مما حدث لي قبل نصف قرن من الزمن عندما قمتُ بزيارتي الأولى إلى مصر، التي كانت قبلة آمال كثير من الشباب العربي المتطلع بشغف إلى وحدة أمته..
|
..وكنتُ في تلك الزيارة مع ثلاثة من رفاق الدرب، بينهم ابن عمي أحمد، وحينما قرأ تلك المقالة تداعت الذكريات. ولأبي أحمد ذاكرة جيدة ما زالت - والحمد لله - تحتفظ بتفصيلات الأمور. وكان مما أعادت هذه الذاكرة الجيدة عرضه في جلسة سعيدة قبل ثلاث ليال مقدار المصروف اليومي، الذي كنا نحن الأربعة ننفقه يومياً على الطعام والشراب في الشقة بالقاهرة يوم كانت القاهرة قاهرة لأعداء أمتنا بدرجة كبيرة. كان ذلك المصروف يتراوح بين سبعين وثمانين قرشاً فقط. على أن ضآلة هذا المبلغ غير مستغربة ما دام إيجار الشقة الشهري ثلاثين جنيهاً، وأجرة الخادمة التي كانت تقوم بإحضار ما كنا نحتاج إليه من السوق وكل أعباء المنزل ثلاثة جنيهات لا غير.
|
انتهى ذلك الشهر القاهري، وبقي أحدنا، وهو عبيد العبيد - رحمه الله - لإكمال علاج قدمه. وانطلقنا ثلاثة من القاهرة، عاصمة الإقليم الجنوبي من الجمهورية العربية المتحدة، إلى الإسكندرية، ثغر ذلك الإقليم الجميل على البحر المتوسط. وكانت الرحلة بالقطار إلى هناك ممتعة مريحة. وبعد وصولنا إليها ذهبنا مباشرة إلى سكن الأخ عبدالرحمن القرعاوي - رحمه الله - الذي كان حينذاك طالباً في الجامعة؛ فأكرمنا، وساعدنا في العثور على شقة مناسبة أقمنا فيها أسبوعاً قبل أن نغادرها مستقلِّين ظهر باخرة اسمها السودان إلى اللاذقية ثغر سورية (الإقليم الشمالي) الجميل على البحر المتوسط حين كان ثغر الوحدة مبتسماً. وكان في الرحلة على الباخرة ما فيها من لطائف. ومن هذه أننا لم نكن نعرف نظام دخول المطعم لتناول الطعام؛ فاتجه إليه أحدنا مرتدياً بيجامته لتناول الإفطار، وربما كان في غاية الشوق إلى الأكل، وإذا به يفاجأ بمنعه من الدخول إلى المطعم دون أن يرتدي ما يعدُّ لباساً رسمياً، لكن ذلك الشوق جعله يسارع إلى ارتداء ثوبه النجدي وينشف غترته على رأسه؛ لينعم بما كان متوافراً من طعام.
|
وكان على ظهر الباخرة كثير من العمال المصريين. وفي ميناء اللاذقية بدت بوادر لم تكن سارة بالنسبة إلى شاب كان متطلعاً لوحدة أمته العربية حينذاك. كان تعامل رجال الجوازات السوريين مع أولئك العمال المصريين تعاملاً متوتراً إن لم أقل فظاً، وربما كان في تصرف العمال شيء من عدم الانضباط، لكن لو لم تكن هناك أسباب أخرى لاحتُوي ذلك التصرف وفقاً لما عبَّر عنه البيت المشهور:
|
وعين الرضا عن كل عيب كليلة |
كما أن عين السخط تبدي المساويا |
من الواضح أن حدة الخلاف بين البعثيين في سورية (الإقليم الشمالي) والقيادة في مصر (الإقليم الجنوبي) المتبنية للتيار القومي العام قد بلغت ما بلغت من تأزم، وتزامن ذلك مع سوء إدارة على رأسها نائب لرئيس الدولة مصري من المرجح أنه لم يكن يعرف نفسية الشعب السوري معرفة كافية.
|
وما كانت الأغاني الجميلة السبك كلمات وتلحيناً، المعبِّرة عن تمسُّك بالوحدة، لتحجب حقيقة أوضحها المفكر القومي ساطع الحصري في كتابه ذي الرأي الصائب (الإقليمية.. بذورها وجذورها). وبعد عام من تلك الحادثة وقع الانفصال؛ لنجد عدداً من زعماء حزب البعث، الذي طليعة مبادئه الوحدة، يوقعون على وثيقة تؤيد ذلك الانفصال.
|
وما استقمنا في اللاذقية أكثر من يومين قبل أن نستقل الحافلة إلى دمشق، وهناك أقمنا في فندق قصر الرشيد، وكان معنا حوالة من مصرف في الرياض على بنك في تلك المدينة، لكننا فوجئنا بإخبار البنك لنا بأن الحوالة دون رصيد؛ ذلك أن صاحب المصرف قد انكسر أثناء وجودنا في القاهرة.
|
وكان معنا بعض النقود؛ فقررنا الذهاب إلى لبنان انتظاراً لرد يأتي من صديقنا سليمان المزيني في الرياض، وكانت جهوده موفقة في إقناع صاحب المصرف المنكسر أن يبعث حوالة على سليمان القاضي - رحمه الله - بالمبلغ الذي كان لنا في ذمته.
|
وكان من أسباب ذهابنا إلى لبنان - إضافة إلى كونه انتظاراً لرد يأتي من الرياض ينقذنا مما كان يتهددنا من خطر إفلاس - الحصول على كتب لم تكن متوافرة إلا في بلد كان - ولا يزال - وطن الحرية الفكرية. وفي بيروت سكنا في غرفة واحدة بفندق لم أعد أذكر إن كان من درجة نجمتين أو لم يكن، وكان إيجار تلك الغرفة كاملة ست ليرات لبنانية. وأذكر أننا ذات ليلة ضوينا حوالي منتصف الليل؛ فسألنا صاحب ذلك الفندق المتواضع ثمناً أن يحضر لنا عصافير مشوية عشاء؛ فما كان منه إلا أن أحضر ذلك خلال نصف ساعة. ومنذ تلك الحادثة أصبحتُ مقتنعاً بأن قدرة اللبناني على تطويع الأمور وتذليلها لا تضاهيها قدرة غيره. وكنت قد شاركت في أمسية شعرية في لبنان بعد شهور من إجبار جيش الصهاينة وأعوانهم على الانسحاب من جنوبي لبنان عام 2000م؛ فقلت في بداية تلك الأمسية: «إن من الكلمات التي غناها وديع الصافي: (بكل الدِّني ما في مثل لبنان. غاب السباع وجنة الحلوين). أما أن لبنان غاب السباع فبرهانه ما حدث من نصر هذا العام، وأما أن لبنان جنة الحلوين فالتفتوا يميناً وشمالاً لتدركوا ذلك، لكني أزيد على هذا بالقول: إن لبنان بلد الجمال الطبيعي: جبلاً وسهلاً وساحلاً، ولبنان وطن الإشعاع الفكري، الذي لم تحجب ضوءه حتى الحرب الأهلية، التي وقعت فيه، رغم قساوتها. ولبنان بلد الإنسان الذي هو عفريت يشبه عفاريت سليمان بن داود، ارمه في أي مكان وتحت أي ظرف وسوف تجده قادراً على إثبات وجوده».
|
لا أدري كيف شرَّقت في كتابة هذه السطور ولا كيف غربت، لكني أعلم أن (الغربية) التي تعني - فيما عني - لدى الأسلاف من النجديين، الذهاب إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر، كانت أمراً مفيداً محبباً إلى النفوس.
|
لكني أدرك الآن أن الاتجاه غرباً يعني - فيما يعني - تبني مُثُل أعداء أمتنا من الغربيين وقيمهم على حساب مُثُل هذه الأمة وهويتها، لغة وتقاليد، وأعلم - في الوقت نفسه - أن هناك أمماً في الشرق لم يمنعها تمسكها المحمود بلغاتها، تدريساً بها لجميع فروع المعرفة وفي كل المراحل الدراسية، من شقِّ طريقها إلى التقدُّم والرقي بكل ثقة ونجاح، وأن هذه الأمم فرضت احترامها في العالم، في حين تفقد أمتنا المهرولة إلى التغريب أركان هويتها - بما فيها لغتها - تدريجياً. لغة الذين يبرهنون يومياً على عداوتهم لهذه الأمة بمختلف الوسائل أصبح تبنيها الهدف لدى المسؤولين، وبدون تحقيقه لا يمكن التقدُّم في نظرهم، وساء ما ينظرون.
|
|