لا أظن أن أحداً من الرجال والنساء: كباراً وصغاراً.. شيبة وشباباً، وبطول هذا الوطن وعرضه.. إلا وامتلأ قلبه غبطة وسروراً ب»إلغاء» حكم «التفريق» بين الأخ منصور والأخت فاطمة، الذي أعاد الدفء إلى حياتهما العائلية ومعهما ......
.....طفلاهما الصغيران، والذي أصدرته «المحكمة العليا».. ربما في أول إطلالة لها على مجريات حياتنا القضائية، وبهذه الصورة المشرقة والمشرفة التي تصدع وتسطع بها دعوة الإسلام «الحق» في هذا الشأن.. ف(كلكم لآدم، وآدم من تراب)، و(لا فضل لعربي على أعجمي.. إلا بالتقوى).
لكن هذه النهاية السعيدة.. التي سعد بها طرفاها، والوطن، من أقصاه إلى أقصاه.. ما كانت لتكون لولا تدخل الأب، ورجل الرجال، والإنسان الكبير حقاً: خادم الحرمين الشريفين، الملك عبدالله بن عبدالعزيز في «القضية».. بعد أن تواترت الأحاديث عنها وعلى مختلف المستويات، في أعقاب الصدمة والدهشة بل والضجة التي أثارها صدور حكم «محكمة الجوف»؛ فإنفاذه في «التفريق» بين الزوجين السعيدين والحريصين على استمرار حياتهما الزوجية.. بحجة عدم التكافؤ في النسب، التي رفعها - ويا للعجب - أخ الزوجة من أمها.. بعد موت والدها وولي أمرها، وبعد أن أنجبت بنتاً وولداً.. وليس قبل أي من الأمرين أو كليهما!!
كان تدخل المليك، الذي شهدت بواكير عهده صدور نظامين جديدين ل«القضاء» و«المظالم» (19-9-1428ه).. شرعياً رائعاً: يصون القضاء ويحفظ له قدسيته.. ويرد عن الأمة غوائل تمزقها وتناحرها، فكان أن أحال «حكم» محكمة الجوف - الذي بدا لسواد الناس جميعاً ولفقهاء القضاء وحكمائهم كما لو أنه غشيته حمية جاهلية.. تذكر بأيام عفا عليها الزمن، وتجاوزها وعي الأمة.. وهي تميز بين الناس وتفرق بينهم: فهذا قبيلي (أو قبلي)، وهذا خضيري لا قبيلة ولا نسب له - إلى «المحكمة العليا».. المسؤولة بحكم النظام القضائي الجديد عن «مراقبة سلامة تطبيق الأحكام الشرعية الإسلامية، وما يصدره ولي الأمر من أنظمة لا تتعارض معها»؛ لتنظر «القضية» وتراجع «الحكم» بمسؤولياتها وصلاحيتها التي خولها لها النظام، فكان أن أصدرت حكمها ب «إلغاء حكم التفريق بينهما لعدم تكافؤ النسب»؛ ليلتئم شمل الزوجين والأسرة مجدداً، ويُنقذ طفلاهما البريئان من غائلة «يتم» محيق.. ستفرضه بكل قسوته ومرارته طبيعة الأشياء حتماً، أو طبيعة الامتثال لحكم محكمة الجوف ب «التفريق».. لو قدر له أن يستمر ويتواصل حتى وإن حاول «الطليقان» - ساعة ذاك - في إنقاذ طفليهما، أو التخفيف من معانتهما.
ولكن الحمد لله الذي طوى تلك السنوات السوداء من حياتهما، وأوقفهما على أبواب أعوام جديدة من الاستقرار والسعادة، وهو ما يستوجب التهنئة لهما أولاً لخلوصهما من كوابيس تلك الأيام والليالي.. ولأولئك الرجال والسيدات والمسؤولين الراشدين العقلاء الذين تمثلوا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - خير تمثيل «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان»؛ فساندوا الحق.. ودعوا له بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة إلى أن جاءت الكلمة الفصل من ملك البلاد وربان العدل والحق والحكمة في الوطن: عبدالله بن عبدالعزيز.. الذي أحال الأمر إلى «المحكمة العليا»؛ لتقول كلمتها، تأصيلاً وتأكيداً (منه) لاستقلالية القضاء؛ حيث لا ينقض حكم إلا بحكم يصدر عن محكمة أعلى من سابقتها، فكانت «كلمتها» التي رعاها وأنفذها حفظه الله، وأدام عليه الصحة والعافية والتوفيق، والتي تؤكد مجدداً حضوره الدائم والفاعل في حياة الوطن والمواطنين، وفي قضاياه وقضاياهم.. رغم مشاغله الوطنية الأخرى، ومسؤولياته الإقليمية والعربية والدولية.
في هذه الساعات.. التي كان الوطن منتشياً فيها بمتابعة أنباء عودة الزوجين المفَرَّق بينهما.. إلى سابق حياتهما، وقد أصبحا أشهر زوجين في المملكة، كانت هناك أنباء جديدة لا تقل بهجة عن سابقتها، صنعتها إنسانية ملك الإنسانية.. وفاجأتنا بها شاشات التلفزيون، وهذه الصحيفة وبقية الصحف الأخرى، في مطلع الأسبوع الماضي.. وهي تنقل لنا أخبار تشرف عائلتي: (الهاجري) و(العبداللطيف) بلقاء خادم الحرمين الشريفين في مزرعته خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي؛ للسلام عليه.. ولتعلن أولاهما تنازلها عن القصاص من قاتل ابنها (عثمان بن حسين بن عامر الهاجري)، ولتعلن ثانيتهما تنازلها عن القصاص من قاتل ابنها (نايف بن محمد العبداللطيف)، وقد حكم القضاء لكليهما بذلك، ولكن العائلتين الكريمتين والمفجوعتين بفَقْد ابنيهما.. آثرتا العفو، والرحمة والاحتساب عند الله، والتجاوب مع دعوات ملك الإنسانية الملحة والدائمة: عن الخير وفعله الذي تكتمل به إنسانية الإنسان.. وعن الصفح والغفران والعفو عند المقدرة التي ترتقي بها إنسانية صاحبها إلى مراتب الصالحين الأخيار والأبرار.
لقد كانت ابتسامات الملك التي نقلتها شاشات التلفزيون وصفحات الصحف أكبر من أن يُعبَّر عنها بالكلمات، وهو يستمع إلى أحد أبناء عائلة «الهاجري» وهو يقول «إن ما فعلناه هو جزء من الجميل الذي غمرتنا به قبل شهرين أو ثلاثة بشفاعتك لأحد بني هاجر؛ فهو وسام شرف لنا كقبيلة.. تعتز بما قمت به»، فإلى أحد أبناء عائلة «العبداللطيف» وهو يقول «كيف لا نستجيب وقدوتنا المعاصرة مقامكم الكريم.. صاحب المواقف النبيلة، والمساعي الصادقة في العفو والصفح».. كانت ابتسامات فرح وسعادة تعبر عن فرحة الوطن بأسره.. كما كانت كلماته التي وجهها لأبناء العائلتين، أو القبيلتين، وحضور تلك الجلسة المباركة، تعبيراً عن أبناء الوطن جميعاً، عندما قال حفظه الله «هذه هي الأخلاق الإسلامية العربية.. فهؤلاء أتوا وهم عافون عن رقبة، فالحمد لله على نعمه؛ فالأخلاق الطيبة والمبادرات القيمة هي نعمة من عند الله، والعتق ليس بالأمر الهين؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، ولكنه زينة لكم ولهم إن شاء الله).. لتشتعل قلوب المواطنين فرحاً بكل ذلك الذي جرى وعاشته لحظة بلحظة.
على هذه المساحة الرحبة من «العدل» و«العفو»، وفي أجوائها النبيلة الرحيمة التي عاشها أبناء الوطن والمقيمون فيه برداً وسلاماً.. والتي نقلنا إليها مجدداً ملك الإنسانية بسماحته وحكمته ورؤاه الثاقبة.. كان هناك مَنْ يتساءل من المواطنين والمقيمين والمحبين لهذا البلد عن اللحظة التي تحين فيها التفاتة ملك الإنسانية إلى تلك الأحكام الحدية والتعزيرية التي تصدرها بعض المحاكم، والتي أصبحت مصحوبة في الغالب بعقوبة جلد إضافية، أخذت تتنامى من العشرات.. إلى المئات.. إلى الآلاف؛ لمراقبتها، والتأكد من سلامة تطبيقها لأحكام الشرع الإسلامية؛ إذ لا تعرف ديار المسلمين قاطبة أحكاماً مثلها!!
إن ما يجري في داخل الوطن لم يعد وقفاً على معرفة أبنائه والمقيمين فيه وحدهم، ولكنه - وفي ظل هذا الإعلام المفتوح.. المتعدد والشامل - أصبح معروفاً ومتاحاً للجميع: للأصدقاء والمحايدين والأعداء.. حتى وإن جرى في «زقاق» من أزقة «البطحاء» أو عطفة من عطفات «باب شريف»!!
ولعل المسؤولين، أو بعضهم على الأقل، يذكرون فيما مضى كيف تحولت مشاركة صغار الفتيان (التراثية) في سباقات الهجن بالجنادرية إلى قضية من قضايا لجنة حقوق الإنسان سابقاً في جنيف، واتهام للمملكة بتشغيل الأطفال - المحرم حقوقياً - في أعمال خطرة وهم دون السن القانونية، ولعلهم جميعاً يذكرون كيف أن التنديد بعقوبة الجلد المحرمة دولياً يشكِّل بنداً دائماً في تقارير اللجنة السنوية عن صورة حقوق الإنسان في العالم التي اعتادت أن تضعنا في الصدارة منها.
رعاك الله يا خادم الحرمين وحفظك وأدام عليك نعمة التوفيق؛ فقد أنجزت الكثير، وحققت الكثير.. وما زال الوطن وأبناؤه والمقيمون فيه ينتظرون منك ومن إنسانيتك الكثير.