في جلسة مساء مفعم بالعاطفة الأخوية الدافئة، التف نفر من الأصدقاء تغمرهم مشاعر ود وحب، التفوا ليحتفوا فرحين بمناسبة ترقية أحد زملائهم إلى مستوى وظيفي أعلى، كال أحدهم له المدائح، وتفنن آخر في سرد جملة من المناقب والمحامد، وثالث صاح متشدقاً مشيداً بمواقفه وبنبيل أفعاله، ورابع ألقى بحماسة وانفعال قصيدة عصماء يذكر سجايا المحتفى به وشمائله، وخامس أصر حالفاً على أن يعبر عن مشاعره وفرحته عبر صفحة كاملة في إحدى الصحف، وسادس دعا كرما الزملاء إلى وليمة عشاء دسمة جداً في أحد المطاعم الفاخرة، وهكذا تسابق الحاضرون إلى إظهار خالص ودهم ومودتهم، وشديد إعجابهم وفخرهم بما يتسم به زميلهم من مناقب كريمة، وشمائل وسمات لها في المجد باع طويل أصيل حسب ما رددوه على مسامع زميلهم علانية وبلغة لا تخلو من نفاق ومجاملة متكلفة.
|
صدق المسكين بكل سذاجة إطراء زملائه، واحمر وجهه خجلا، وضاقت به ثيابه من شدة انتشائه وتصديقه وفرحه بعبارات الثناء، وتنويههم عن مناقبه وسجاياه، وتنوع مواقف إشادتهم وإعجابهم، وحلق به خياله ليرى نفسه في مكانة علية على الرغم من أنه يعرف في داخل نفسه أنه لا يستحق هذه المكانة ولم يتطلع إليها، كما يعرف أنه لم يعهد سابقاً أن سمع من أصدقائه المبجلين بعضاً مما ذكره كل واحد منهم، وصار يخاطب نفسه مستغرباً، أحلم هذا أم حقيقة؟ أصدق ما يقولون أم مجرد مجاملة؟ نفاق أم تزلف؟ ما حقيقة ما يجري؟ هل هو تعبير عن مشاعر أخوة كانت كامنة نائمة؟ أم هي صفاقة خب لا يستحي، أم أنه تمهيد وتوطئة لما سيأتي في قادم الأيام من مطالب وشفاعات وإحراجات لا تنتهي.
|
استأذن من زملائه قبل أن ينصرف والحيرة تستحوذ على مشاعره وعقله، وتذكر قول الشاعر:
|
يعطيك من طرف اللسان حلاوة |
ويروغ منك كما يروغ الثعلب |
ومع هذا لم يكن أمام المسكين خيار إلا أن يصدق ما سمع حتى يتبين له الأمر، فالمسلم مأمور بأن يحسن الظن بإخوانه، هكذا خاطب نفسه، وأن يتعامل معهم حسب ما يبدو في ظاهرهم، أما البواطن فليس مأموراً بأن يبحث فيها، بل يتركها إلى من يعلم خفاياها، الله سبحانه وتعالى هو الأعلم بها، فهو من يعلم السر وأخفى، هذا خلق المسلم، لكن عليه ألا يكون ساذجاً، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (لست بالخب ولا الخب يخدعني)، هكذا بدت حال هؤلاء الزملاء للمحتفى به، إنهم شلة من المخادعين، بدت حقيقتهم بمجرد مغادرته جمعهم حيث علت ضحكاتهم وتعليقاتهم لتنسف كل ما قالوا بحقه، ولتكشف زيف مشاعرهم وكذبهم.
|
ما أكثر المخادعين، وما أبشع أساليبهم وطرائقهم في الخداع والمكر، في مداعبة الوجدانات والعواطف، في إظهار كامل المودة والمحبة والإعجاب، بكلام مبتذل رخيص ساذج سامج، لكن الفطن الواعي يُدرك دون عناء المشاعر المزيفة، والكذب والإدعاء، يدركه في لحن القول، وفي ردة الفعل التي لا تخلو من تكلف وتصنع.
|
هذه السمة غير الأخلاقية بدت تتجلى وتظهر وتتسع دائرتها بوضوح في سلوكات البعض، وهي سمة تتنافي مع قيم الإسلام وآدابه، ومع سمات الرجولة وشمائلها، ومع احترام الذات وابائها وأنفتها، وصارت من فرط ممارستها عادة استمرأتها النفوس الرخيصة، لكنها في كل الأحوال دلالة على عدم المروءة، وعلى عدم احترام الذات، كما أنها تثير عند كرام النفوس الاشمئزاز والازدراء والرفض، وغدت علامة على الاستجداء غير المباشر للتكسب المادي والمعنوي.
|
يقال: (احترس من الناس بسوء الظن، لكن لا تعاملهم به)، الكيس لا تنطلي عليه عبارات الثناء والمدح، بل يحترس منها، ولا يتعامل مع الغير بموجبها، تعامله يتم وفق ثاقب بصيرته التي تعي المواقف الصادقة وتميزها، والأفعال النبيلة وتقدرها، والأعمال الجليلة وتثمنها.
|
|