للجمعيات القرآنية من الآثار الحميدة والمنافع الشاملة الشيء الكثير فقد كثر الحفاظ والحافظات وعمرت بيوت الله تعالى والدور والمدارس النسائية بحلق تعليم القرآن الكريم وتحفيظه وأقبل عليها الأبناء بمختلف أعمارهم وكذا الفتيات فانتفعوا بالقرآن ونفعوا, وخرجت هذه الجمعيات أجيالاً منهم القضاة والأئمة ورجال الدولة والعلماء وأساتذة الجامعات والمدارس ورواد في القطاع الخاص ولله تعالى الحمد والشكر والمنة.
إن أغلب الدارسين في الحلق التي تشرف عليها الجمعيات فئة عمرية حساسة جداً فهم في الغالب من مرحلة الشباب أو ما دون ذلك ويحتاجون إلى جهود عظيمة لتربيتهم, وتعليمهم, وتوعيتهم, لإبعادهم عن طريق الشر, وإبقائهم على طريق الخير والصواب.
وإن حلق التحفيظ في المساجد والجوامع هي محضن مهم يعين الآباء ورجال التربية والتعليم على تربية الأولاد وحمايتهم من الأفكار الهدامة, وتعويدهم على المداومة والانضباط وتهذيب النفوس والأخلاق وتعزيز جوانب الخير وكبح نوازع الشر ليكونوا أفرادا مصلحين لنفوسهم وأهليهم ومجتمعهم ووطنهم حماة له من تيارات الفساد والضلالة.
إن المؤشرات والدلائل تؤكد الدور الفاعل للجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم ومساهماتها القوية في إعداد الناشئة ليكونوا ركيزة للوطن ودرعاً له ومثالاً يقتدى به في طاعة ولاة الأمر ومناصرتهم والدعاء لهم, وتحذيرهم من الفرقة والاختلاف, والعمل على تنمية قيم الانتماء والمواطنة في هذا الوطن الغالي في ظل ما يقرؤون ويحفظون من كتاب الله عز وجل, وإبراز منهج الوسطية والاعتدال والتركيز على ذلك.
وبعد مسيرة قرابة نصف قرن لهذه الجمعيات المباركة ومع تطور المجتمع وتنوع وسائل وسبل المعرفة فيه وتوفر التقنية الحديثة وتسخيرها لخدمة كتاب الله تعالى فإن هذه الجمعيات قد أخذت ولله الحمد بأسباب التطور والتقنية وسعت جاهدة لحماية الشباب من الانحراف أو الغلو ووقفت سداً منيعاً لما يواجه مجتمعنا وبلادنا من شراسة المغريات والملهيات.
ولترشيد مسيرة تربية الناشئة والشباب على خلق وقيم القرآن في جمعيات التحفيظ ولتطوير مستوى الأداء فيها فإن لي وقفات:
أولاً: تأصيل مفهوم الطاعة لولاة الأمر حكام هذه البلاد في نفوس الطلاب, ومعرفة حقوقهم واحترامهم ومناصرتهم قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (فأمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم كما أمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها, وإذا حكموا بين الناس يحكموا بالعدل وأمرهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله ورسوله فإن ما أمر الله به ورسوله من طاعة الله وولاة الأمور ومناصحتهم واجب على كل أحد) الفتاوى خ25 ص5 , وهذا ما تسعى إليه جمعيات التحفيظ في بلادنا؛ لمعرفة القائمين عليها ما يحصل من ولاة أمرنا في هذه البلاد من خير وهدى ومنفعة عظيمة في تطبيق شرع الله تعالى؛ بإقامة الحدود, ونصرة الحق, والعناية بأسباب الأمن؛ لحفظ نفوس الرعية ودينهم وأموالهم وأعراضهم, والأخذ على يد السفيه والظالم والمفسد في الأرض.. إلى غير ذلك من المصالح العظيمة, والمنافع الكبيرة لحماية الدين ورعاية الناس.
ومن هنا فإن السمع والطاعة من حقوق ولاة أمرنا علينا, ومن واجبنا تنشئة الأبناء والدارسين في حلق التحفيظ والدارسات في الدور النسائية على مفهوم الطاعة لولاة الأمر وتأصيله شرعياً من خلال اللقاءات والمحاضرات والندوات والمسابقات المقامة والنشرات التوجيهية, فبلادنا ولله الحمد دولة مباركة, نصر الله بها الحق, ونصر بها الدين, وجمع بها الكلمة, وقضى سبحانه بها على أسباب الخلاف والفرقة والفساد وأمَّن الله بها البلاد, وحصل بها من النعم والخيرات العظيمة مالا يحصيه إلا الله.
ثانياً: ترشيح المعلمين والمعلمات المؤهلين تأهيلاً قرآنياً وتربوياً متكاملاً للتعليم والتحفيظ في الحلق, وإعداد برامج تدريبية متكاملة ومتخصصة لرفع كفاية المعلمين القائمين في حلق التحفيظ للبنين وللمعلمات في الدور والمدارس النسائية وتأهيلهم على أن تكون هذه البرامج تطبيقية وتتناول طرق تدريس القرآن الكريم وجوانب تربوية هامة تتعلق بكيفية إعداد الناشئة وتربيتهم للمستقبل وحمايتهم وصيانة عقولهم, والأمر هنا يتطلب حسن الاختيار للمعلمين والمعلمات للتخصص في هذا الميدان, فيكون الاختيار من أهل الاختصاص والكفاءة مع الاهتمام بتأهيلهم تأهيلاً متكاملاً في معاهد متخصصة للمعلمين والمعلمات تمكنهم من تعليم الأولاد وتربيتهم على قيم وخلق القرآن وتكسبهم الهوية الإسلامية المعتدلة ويستثمر استعدادهم الفطري بما يحقق الأمن والازدهار لبلادهم ومجتمعهم ويرسخ ويوصل مفهوم الطاعة لولي الأمر.
ثالثاً: ولكي تحقق الجمعيات نتائج متميزة وضابطة لمخرجاتها لابد من وضع خطة تطويرية شاملة للمنظومة الإدارية والفنية في كل جمعية, بالإضافة إلى آليات عمل وإجراءات ميسرة للوصول إلى تحقيق أهدافها بتميز وإتقان, والأخذ بنهج العمل المؤسسي للمحافظة على استقرار الجمعيات, وعدم الاخلال في نظامها بتغير الأفراد أو اختلاف قناعاتهم, وأن تلتزم القيادات الإدارية في الجمعيات بالموضوعية في اتخاذ القرارات وتوظيف القدرات البشرية المناسبة والاستفادة من إمكاناتها في زيادة الإنتاجية.
أن العمل المؤسسي ترجمة عملية لمبادئ وقيم ديننا الإسلامي العظيم وذو أهمية بالغة لأنه ينقل العمل من الفردية إلى الجماعية ومن العفوية إلى التخطيط, ومن الغموض إلى الوضوح, ومن التأثير المحدود إلى التأثير الواسع.
رابعاً: لابد أن تحتضن هذه الجمعيات فرق عمل قيادية متخصصة في التخطيط والدراسة الهادفة واستقراء الصعوبات والمعوقات التي تعاني منها الجمعيات وتقديم الحلول المناسبة لها, ومتابعة آخر المستجدات التربوية والإدارية التي تعين الجمعيات على تحقيق أهدافها, وتقديم الدراسات التحليلية الميدانية للواقع القائم للرقي مستقبلا به إلى المأمول, واقتراح سبل التدريب المستمر للمعلمين وتحسين مستوياتهم, وتقديم رؤية جديدة نحو تنمية الموارد في الجمعيات وتحديد الوسائل المناسبة لضبطها وحسن التصرف فيها, واقتراح البرامج والمناشط المساندة الهادفة إلى تهذيب سلوك الناشئة والشباب والمساهمة في تربيتهم وإصلاحهم.
خامساً: تنشئة الأبناء في جمعيات التحفيظ على الاعتدال والوسطية التي هي سمة من سمات قيم ديننا الإسلامي الحنيف, حتى يكون الدارس في حلق القرآن الكريم مستقيماً متوازناً في افكاره منضبطاً في تصرفاته, ولاشك بأن موائد القرآن في حلق التحفيظ تعمل على تخريج جيل انموذج في أخلاقه وتصرفاته وتعامله مع الآخرين, وتجدر الإشارة إلى أن نتاج هذه الحلق القرآنية ليسوا معصومين عن الخطأ فهم كغيرهم يصيبون ويخطئون, وما قد يحصل من تصرفات واجتهادات فردية قد تخضع لاعتبارات عاطفية لاتصلح ابداً أن تكون قاعدة يعمم من أجلها الحكم على مخرج هذه الجمعيات, ولما كانت هذه الناشئة في رحاب القرآن مستهدفة من دعاة الضلالة والأفكار الهدامة.. فإن على الجمعيات مسؤوليات جسام في رعاية هولاء الشباب وضبط السلوك لديهم وتوجيه طاقاتهم وميولهم بما يحقق صلاحهم والأمن والتقدم لأبناء مجتمعهم ووطنهم.
وفي الختام قال الله تعالى:?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا? (9) سورة الإسراء.
وما هذه الحلق القرآنية في الجمعيات الخيرية إلا وسيلة من أهم الوسائل لربط هذا الجيل والأجيال القادمة بالطريق الأقوم والسبيل الأمثل لهداية البشر, وإيصال المؤمنين منهم إلى الفوز بالسعادة الأبدية, فهي الحصن الحصين, والدرع المتين, والمحضن الأمين الذي ينأى بهم عن سبل الغواية والضلال.
رئيس الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم في الأحساء