Al Jazirah NewsPaper Friday  12/02/2010 G Issue 13651
الجمعة 28 صفر 1431   العدد  13651
 
نوازع
المحاكاة 1-2
د. محمد بن عبد الرحمن البشر

 

المحاكاة ظاهرة حميدة في كثير من الأحوال غير أنها قد لا تكون كذلك في أحوال أخرى، والإنسان منذ بدء الخليقة حاكى أقرانه وما حوله في الطبيعة، واستفاد من تلك المحاكاة، ومن تلك محاكاته للغراب في الدفن، وبعض الحيوانات في الجري، والسمك في السباحة، وربما الثعلب في المكر، والأسد في الاستبداد.

وبعد مدة من عمره المديد، حاول محاكاة الطير في طيرانه، فكانت محاولة عباس بن فرناس الأندلسي التي باءت بالفشل. وبعد ذلك بقرون نجحت فئة من البشر في محاكاة الطير فصنعت الطائرات، ونجحت في محاكاة الحوت فصنعت الغواصات، ونجحت في محاكاة الخفاش فصنعت الرادارات، وحاكت العيون فصنعت الكاميرات، وحاكت الأجسام فصنعت الإنسان الآلي، لكنها عجزت حتى الآن عن محاكاة العقل، والإحساس، والتحسس، والعاطفة، والحزن، والسرور.

وفكر الإنسان في ذاته، فحاولت ثلثة من النساء محاكاة الجميلات فوضعن المساحيق على وجههنّ، والكحل والرموش على عيونهن، والأصباغ على شفاههن، والألوان على شعورهن. وحذا بعض الرجال حذوهنّ، وانتقل الإنسان إلى مراحل متقدمة في محاكاة التشبب والتزين لا سيما النساء، فأخذ في شد الوجه والقد، وتغليظ الخد والشفاه والنهد، واستمرأوا الأمر واستحسنوه فمالوا إلى الكفل فزادوه، وهكذا يستمر الإنسان في محاكاته لما حوله من المخلوقات ولشبابه بعد كهولته.

وكانت هناك محاكاة بين الأمم في ثقافاتها وحضاراتها فكانت الحضارة في بلاد الرافدين ومصر واليابان وروما وبلاد الإسلام ومنها إلى الحضارة الحديثة التي يعيشها عالمنا اليوم.

واستقت كثير من الدول من تقدم دول أخرى في عصرنا الحاضر فأخذت اليابان من دول أوروبا بعضا من مخترعاتها وحاكتها في صناعتها واستطاعت بفضل جبلة الجلد والتنظيم أن تستفيد وتزاحم من حاكتهم في تلك الصنعة. وما لبثت كوريا وماليزيا وسنغافورة والصين وغيرها من الدول أن أخذت في المحاكاة فنجحت وانضمت إلى الدول المتقدمة بفضل المحاكاة وليس الابتداء والاختراع.

وننتظر من عالمنا العربي أن يعرف فضل المحاكاة في النظام أولاً، والاجتهاد ثانياً، والعزوف عن تغليب الهوى ثالثا، ويمكنه إن رغب أن يصل إلى ما وصل إليه غيره، فالعمل ممكن والنماذج متاحة والتواصل متيسر، لكنه ربما رغب أن يبقى في محاكاة من سبقه من أبناء قومه في الشعر والنثر فيحسن السجع في القول، والتملق واختيار جزيل الألفاظ للوصول إلى قلب المتلقي، وكأنه راغب في التعلق بالأفئدة، لنيل الحظوة فهي السبيل إلى بلوغ المرام، كما كان سائداً في قديم الزمان. فإن كان هذا سبيله في المحاكاة فسيظل كما كان ناعم اليد مرتاح البال، قليل المال، ضعيف الحال.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد