في الأنظمة الديمقراطية يفترض في نظام العدالة أن يكون مستقلاً. بيد أن بعض مدعي العموم وقضاة التحقيق يتناسون هذه الحقيقة كلما كان في ذلك مصلحة لهم. والواقع أن العديد من بينهم غارقون إلى آذانهم في السياسة، ويلاحقون أجندات سياسية خاصة وتحركهم الرغبة في الانتقام والثأر.
إن ظاهرة تسييس مدعي العموم وقضاة التحقيق أصبحت عالمية؛ حيث بدأت في الانتشار في أنظمة ديمقراطية متنوعة مثل اليابان، وفرنسا، وإسبانيا، وتركيا، والأرجنتين. وفي كل هذه البلدان يُلقي مدعو العموم وقضاة التحقيق باتهامات الفساد ضد الحكومات والأحزاب الحاكمة، وهي الاتهامات التي يتصادف أيضاً أن تناسب المصالح السياسية والمؤسسية للقضاة.
على سبيل المثال، وجَّه المدعي العام الياباني الاتهام إلى ايشيرو أوزاوا، الأمين العام للحزب الديمقراطي الياباني المنتخب حديثاً، بتلقي أرصدة مالية غير قانونية لإدارة الحملة الأخيرة للحزب الديمقراطي الياباني ضد الحزب الديمقراطي الليبرالي. والواقع أن توجيه الاتهام إلى ثلاثة من مساعدي أوزاوا بعد أشهر فقط من انتصار الحزب الديمقراطي الياباني يُعَدُّ أمراً بالغ الغرابة في نظر العديد من اليابانيين؛ وذلك نظراً إلى الفساد المعروف عن الحزب الديمقراطي الليبرالي أثناء توليه للسلطة.
ولكن الحزب الديمقراطي الليبرالي عمل يداً بيد مع البيروقراطية اليابانية الراسخة، التي يشكِّل مدعو العموم جزءاً منها. ولقد تعهَّد الحزب الديمقراطي الياباني بإعادة تنظيم العلاقات الحميمة بين البيروقراطيين اليابانيين والساسة وكبار رجال الأعمال. وبتوجيه الاتهام إلى أشخاص مقربين من أوزاوا فمن الواضح أن مدعي العموم يدافعون عن الوضع الراهن.
وفي إيطاليا بدأ مدعو العموم في روما، سيراً على خطى زملائهم في ميلانو، في ملاحقة رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني. لقد أبى قضاة التحقيق في إيطاليا بإصرار أن يتقبلوا الشعبية والنفوذ الانتخابي اللذين يتمتع بهما رجل الأعمال البالغ الثراء الذي حاولوا إدانته لسنوات عديدة. والواقع أن برلسكوني قد لا يكون أكثر الإيطاليين تهذيباً وثقافة، ولكن بعد العديد من المحاولات لم يثبت قط ارتكابه لأي جريمة. ورغم ذلك فإن القضاة عازمون على جره باستمرار إلى المحاكم.
وفي فرنسا، حاول قضاة باريس طيلة سنوات توجيه الاتهام إلى الرئيس السابق جاك شيراك بالفساد. وطالما كان شيراك رئيساً فلم تكن الفرصة متاحة قانوناً لملاحقته قضائياً، ولكن بعد أن تقاعد شيراك واقترب عمره من الثمانين عاماً قام قاضٍ (مستقل) بإعادة فتح القضية. ويُقال إن شيراك قام بتوظيف بعض مسؤولي الخدمة المدنية في البلديات كمساعدين له في حملته الانتخابية قبل عشرين عاماً حين كان عمدة لباريس. ويجدر بنا هنا أن نتذكر أن أي قاضٍ لم يتجرأ على توجيه الاتهام إلى فرانسوا ميتران، سلف شيراك الاشتراكي، حين استخدم أموالاً حكومية للترفيه عن عشيقته وابنته غير الشرعية.
وفي بيونس آيرس لا يملك المرء إلا أن يتساءل عن الدوافع وراء الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا، والذي منعت بموجبه الرئيسة كريستينا كيرشنر من تغيير رئيس البنك المركزي. إن كيرشنر ليست فوق مستوى الشبهات، ولكن افتقار القضاة إلى الحجج القانونية المحكمة يثير الشكوك حول وجود دوافع سياسية.
وفي تركيا يتزايد الموقف تعقيداً ولا يقل انغماساً في السياسة؛ حيث يركز مدعو العموم والقضاة بإصرار على ملاحقة حزب التنمية والعدالة الإسلامي المعتدل باسم حماية الدستور العلماني. فبعد انتخاب حزب التنمية والعدالة في عام 2003 سارعت المحكمة العليا إلى حله من أجل منع رجب طيب أردوغان من تولي منصب رئيس الوزراء.
وفي عام 2008 حاول مدعو العموم مرة أخرى حل حزب العدالة والتنمية بناءً على اتهامه بتقويض الدستور. وفي عام 2009 قررت المحكمة العليا حل الحزب الكردي القانوني الرئيسي، بعد اتهامه بالاتصال بالعصابات الكردية المسلحة. وهذا القرار التعسفي يحرم ملايين الأكراد من أي تمثيل قانوني ويفسد محاولات حكومة حزب العدالة والتنمية للإصلاح بين الأكراد والجمهورية التركية.
ولقد اشتهر النظام الفرنسي القديم بأن القضاة كانوا يعملون في هيئة مجمعة باعتبارهم طبقة اجتماعية مترابطة ومكتفية ذاتياً. وكان المقصود من الثورة الفرنسية وتطبيق حق الاقتراع الشامل تخليص فرنسا من المؤسسة القضائية، بقدر ما كان المقصود منه التخلص من طبقة النبلاء.
ولكن على الرغم من العملية الديمقراطية فإن القضاة ومدعي العموم في كل مكان كانوا يميلون إلى إعادة ترسيخ أنفسهم بوصفهم نخبة ذاتية التعيين، ومعزولة بناءً على رغبة المجتمع في اعتبار القضاء والعدالة كياناً مستقلاً. وحين ننظر عن كثب إلى الحياة المهنية للقضاة في البلدان المذكورة أعلاه فسوف نجد أن القانون من الممكن أن يتغير، ولكن الانتقاء يظل يشكِّل القاعدة المعتادة للعبة؛ حيث يتعين على أي قاضٍ أو مدعي عموم ناجح، حتى يتمكن من تسلق السلم المهني، أن يتبع توجيهات أقرانه من أجل زيادة نفوذ المؤسسة التي ينتمي إليها.
من المفترض في الديمقراطية أن تقوم على الفصل بين السلطات المؤسسية وإيجاد التوازن بينها. وهذا التوازن ينجح ما دامت كل مؤسسة خاضعة للتمحيص الدقيق، وهو ما يتجنبه القضاة ببساطة.
فيلسوف واقتصادي فرنسي - باريس
خاص بـ « الجزيرة »