قرأت في إحدى الصحف خبراً مفاده أن أحد مواطني الولايات المتحدة الأمريكية الذي يعمل سائق شاحنة قد فاز في اليانصيب بما مقداره ثلاثون مليونا من الدولارات، فحسن حاله وزاد أعوانه، دنا منه البعيد، وتزلف إليه المريد، وتقرب إليه اللبيب، ولديه زوجة وأولاد وعشيقة أسعدها ما آل إليه مقامه، وارتفع إليه سنامه، لكن ذلك السعد لم يكفها، فأرادت أن تحصل على شيء من تلك الثروة التي سقطت من السماء كتساقط المطر، فاحتالت عليه مع عشيق آخر لها وأدى بهما الطمع إلى قتل ذلك الثري المسكين، وإخفاء جثته إلى حين.
وكان هذا الثري الجديد الذي دخل عالم الثراء دون عناء قد هم بأن يذهب إلى بلاد بعيدة، فقد ضاق ذرعاً بكثرة المنافقين والمتمصلحين، والملحين على العطاء بسخاء، ولم لا وقد نال شيئاً دون كد، وحصل على مال دون جد، إنما هو البخت، ومن بخته يريدون السعد.
وفي قراءة لكتاب نفح الطيب للمقرئ الأندلسي، قول يصف فيه أهل الأندلس ويذكر فيه أن طريقة الفقراء في الأندلس على مذهب أهل الشرق في الطلب الذي يكسل عن الكد ويحوج الوجوه للطلب في الأسواق، فمستقبحة عندهم، وإذا رأوا شخصاً صحيحاً قادراً على الخدمة يطلب، سبوه وأهانوه، فضلاً عن أن يتصدقوا عليه، فلا تجد بالأندلس سائلاً إلا أن يكون صاحب عذر.
كما ذكر بأن أهل الأندلس أهل احتياط وتدبير في المعاش وحفظ لما في أيديهم خوف ذل السؤال، فلذلك قد ينسبون للبخل، ولهم مروءات على عادة بلادهم، ويذكر المقرئ أنه اجتاز مع والده على قرية من قراها، وقد نال منهما البرد والمطر أشد النيل، فآويا إليها، وكانا على حال ترقبٍ من السلطان لأنه يلاحقهما، وعلى خلو من الرفاهية، فنزلا في بيت شيخ من أهلها، من غير معرفة متقدمة، فقال لهما: إن كان عندكم ما أشتري لكم فحماً تسخنون به فإني أمضي في حوائجكم، وأجعل عيالي يقومون بشأنكم، فأعطياه ما اشترى به فحماً فأضرم ناراً، فجاء ابن له صغير ليصطلي، فضربه، فقال له الوالد: لم ضربته؟ فقال: أخشى أن يتعلم استغنام مال الناس والضجر للبرد من الصغر، ثم لما جاء النوم قال المضيف لابنه: أعط هذا الشاب كساءك الغليظة للضيف يزيدها على ثيابه، فدفع كساءه إلى المقرئ، ولما أفاقا عند الصباح وجدا الصبي منتبهاً ويده في الكساء، فأخبرا والده بذلك، فقال: هذه مروءات أهل الأندلس، وهذا احتياطهم، لقد أعطاك الكساء وفضلك على نفسه، ثم فكر في أنك غريب لايعرف هل أنت ثقة أو لص، فلم يطب له منام حتى يأخذ كساءه خوفاً من انفصالك بها وهو نائم.
وأقول: إن ما قام به الأندلسي هذا إنما هو التفريج عن ضائقة محتاج ألم به خطب، لكنه أعطاه على قدر حاجته، ولم يغفل عن التأكد من أن مطلبه حق، وأنه ليس ممن يتكئ على السؤال، ويتواكل عن العمل، ويتكاسل معتمداً على الهبات والعطايا، ولايضيف لنفسه متعة الإنتاج، كما لايضيف لوطنه وقومه ما يرفع من شأنه، ويوفر قوتهم دون الاعتماد على الآخرين، وللناس بهم عبرة.