المصائب التي تحلّ بالإنسان، هي من سمات هذه الحياة الدنيا، التي يسميها بعضهم دار الأكدار، فما أفرحتْ إلا وأبكتْ، وما سرّتْ إلا وضرّتْ، فهي دار امتحان وابتلاء، وهي الدار الأولى التي يمتحن الله فيها عباده،
لينظر كيف يعملون، بُحسن الاستجابة لشرع الله، أو البُعد عنه بإسلام النفس هواها، ولا يصفو كدرها، إلا بقوة الإيمان، ومحاسبة النفس، قبل أن تُحاسب، يقول سبحانه ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا? (سورة الملك آية 2).
ولم يقُل سبحانه أكثركم، لأن كثرته إذا كانت بغير نية، أو من دعاء قلب غافِل، أو مكسبٍ صاحبه حراماً، أو غير ذلك مما يُبْطل معه العمل، فإنه مردود على صاحبه، ألم يقُلْ سبحانه في مَنْ يبطل عمله: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا? (سورة الفرقان آية23 ).
وما ذلك إلا أن أمور الحياة الدنيا، وما يمر بالإنسان فيها، أثناء حياته، ما هي إلا أمور يعلّم الله بها المؤمنين، آداب التعامل بما يمر بهم شكراً لله على نعمه، واعترافاً بزيادة فضلِه لأن بالشكر تدوم النعم، ويدفع عنك النقم، وبالشكر تدوم النعم وتزداد، حيث يقول سبحانه: ?وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ? (سورة إبراهيم آية 7). وبكفران النعم وعصيان الله على ما أعطى، وتغليب جانب الهوى تكون الخسارة: ?وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ? (سورة إبراهيم آية 7).
كما يسوق الله على العبد، بعض المصائب التي يُهذّب الله بها الإنسان، هل يُحاسب نفسه منها، ويرجع إلى ربه تائباً، ليجد الله غفوراً رحيماً، أم يزداد إثماً وجحوداً، فيبوء بالخسارة على تفريطه ?وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا? (سورة الكهف آية 49).
فمنْ حاسب نفسه، واحتسب لما عند الله، وصبر على ما ينتابه من مصائب، ووطَّن نفسه على تحمّل المكاره والأكدار، كان مستجيباً لله، لأن الله يحب الصابرين، ويعينهم على التحمّل، ويخفّف سبحانه أعباء ذلك إذا علم منهم صدق النيَّة، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث صهيب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كلّه خير، وليس ذلك لأحد غير المؤمن، إن أصابته سرّاء فشكر، كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له).
وما من فرد إلا وتصيبه مصيبة في هذه الحياة في نفسه أو ولده، أو ماله، أو أي قريب إليه، فإن صبر واحتسب لما أعدَّه الله للصابرين: ?إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ? (سورة الزمر 10) حظي بالمنزلة الرفيعة عند الله.
لأن الله سبحانه يحب الصابرين فيتحول ضرر المصيبة إلى خير له، يرى أثره في الدنيا بركةً وثباتاً، ودفعاً لشرّ كان محدقاً به، فجافاه الله عنه، علاوة على لذة في القلب، وأجر مدّخر عند الله.
ولذا جاء الحث على الصبر، في كتاب الله أكثر من مائة مرّة لما له من فوائد وما له من منافع، وهذا من أجل بركات الصبر أن يدرك المرء أن الله يحبه، من أجل صبره على ما أمر الله، وتحمّله المكاره صبراً منه، رجاء الجزاء الذي أمر الله به، وإن ثَقل على نفسه أو بدنه.
يقول عبد الرحمن بن أسلم: (الصبر في بابين: الصبر لله بما أحب، وإن ضاقتْ به النفس، والصبر لله عمّا يكره، وإن نازعت إليه الأهواء، فمن كان كذلك، فهو من الصابرين الذين يسلّم عليهم) إن شاء الله.
فالصابر امتثالاً لله، واحتساباً لما عنده من الأجر، يجد لذة في قلبه، أو أثراً في بلده وولده، وماله، باندفاع آفات كادت تقع عليه، لأنه ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
وقال بعض علماء السلف: الصبر صبران: صبر على أقدار الله، وصبر عمّا حرَّم الله، وقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضمن حديث صحيح: (أن الصبر شطر الإيمان) رواه مسلم، وما ذلك إلا أن منزلة الصبر تكون عند الصدمة الأولى، لأي مصيبة تحلّ بالإنسان، حيث إن قوة الإيمان، والامتثال لأمر الله، وأمر رسوله هي التي تقوّي الإيمان والإرادة عند من وقعت عليه المصيبة بالصبر، أما إذا خفّ الوازع الإيماني من القلب، واستهان المرء بأوامر الله ورسوله، فإن الشيطان يسيطر على القلب، ويدعو صاحبه للجزع، وعدم احتمال الصدمة الأولى حتى يخسر الأجر، كما أخبر بذلك رسول صلى الله عليه وسلم، فيصبر في النهاية كما يصبر الحمار الذي يحمل عليه ويضرب، ولا يجد عن ذلك فكاكاً، فالإنسان ضيّع أجره عند الله، بعدم الامتثال، ومخالفة أمر دينه الذي يحث على الصبر، فقد حدَّث، أنس رضي الله عنه، قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بامرأة تبكي عند قبر، فقال لها: (اتقي الله واصبري) فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي!! ولم تعرفه. فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين. فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال لها: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
وقد توعَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة، وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والشاقَّة وهي التي تشقّ، ثوبها عند الجزع، وغيرهما ممن يلطم الوجه وينتف الشعر عند المصيبة، بالإثم العظيم، وأعظم من ذلك بعض النساء اللواتي يستأجرن للنياحة، حيث يدخلن بنياحتهن الأحزان والجزَعَ، على أهل الميت ومَنْ حولهم، لأن هذا يعذب به الميت نفسه، بل بكل كلمة تقولها النائحة، أو النائح: وا كاسياه، وا مطعماه، وا كذا وا كذا لتقول له الملائكة وهو في قبره: وهل أنت كذلك..؟ من باب التقريع، لأن المُطْعِم والكاسي والمتفضّل هو الله سبحانه.
وأذكر عندما كنت في مصر أيام الدراسة أنني مررت بميدان التحرير، يوم وفاة أحد المغنين، ورأينا واحدة من النائحات، متجهة لمسجد عمر مكرم عبيد، الذي عنده سرادق العزاء، وهي تمشي وتنوح على هذا بكلمات نستغفر الله من ذكرها هنا, فسألت أحد مشايخنا، فأخبرني أن هذه العادة منتشرة في الأرياف، وعند الفلاحين مع انتشار التصوّف وأنّ امرأة من النائحات، لما ماتت، ووضِعتْ على النعش لتغسيلها انقلب جسمها أسود كالفحم، وفي هذا نذارة من الله، سبحانه استغلها بعض المشايخ، في تنبيه الناس بهذه الظاهرة لعلهم يتوبون إلى الله ويقلعون عن هذا العمل، فالمصائب التي تقع على الإنسان في حياته، كثيرة، ومتنوّعة، لأنها ابتلاء وامتحان، ليبرز محك الإيمان الذي يظهر أثره بالتعامل مع المصيبة وأثرها؛ لأن قيمة العمل بِحُسْنه وجَوْدته، والإخلاص لله فيه.
وهذا دليله ما يستقر في القلب، وترتاح له النفس وتزكيته بما يوافق شرعَ الله: عنْ الله أو عن رسوله، كما في الحديث: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرْهت أنْ يطّلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك).
وعلاج هذه المصائب التي تقع بين الناس، وحتى يخف ألمها وحملها، ويهون وقعها على الفرد والجماعة، يجده الإنسان في صيدلية الإسلام، وآداب دين الله الذي شرع وذلك امتثالاً لأمر الله.
- {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (سورة البقرة 156).
- وقبلها قال الله سبحانه: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ? (سورة البقرة 155).
- ثم بيَّن سبحانه الجزاء على هذا الصبر بقوله الكريم: ?أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ? (سورة البقرة 157).
- والاسترجاع وتسليم الأمر لله فإن له ما أخذ وله ما أبقى وكل شيء عنده بمقدار. والإكثار من الاستغفار.
- الاستعانة بالصبر والصلاة، وحمد الله على كل حال، فإن هذا مما يريح القلب. مع الدعاء بالثبات.
- استعمال ما يتيسر من الأدعية والذكر الذي علّمه النبي لأصحابه، وربطه بالاعتقاد حتى يدعو وهو مطمئن القلب.
- ومما يريح صاحب المصيبة، ويسليه عنها: اعتقاد ثبات ما وعد رسول الله به، الجنة لمن تحلَّى بالصبر كما في الآية.
- وما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فقد إحدى عينيه، وصبر أو عزيز لديه بالجنّة وغير هذا من جزاءات كثيرة.
- وعلى كل مسلم أن يتأدب بآداب رسول الله عندما مات ابنه إبراهيم, فصبر واحتسب لأن الله لا يعذب بحزن القلب ولا بدمع العين ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه.. ولا شك أن (الأعمال بالنيّات، ولكل امرئ ما نوى) كما في الحديث الصحيح وفي الآية الكريمة {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (سورة الزمر 10).
نموذج من التوكّل:
يقول التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدّة): حدّثني ابن سيّار عن رجل من المتوكلين، قال: صحبت شيخاً وجماعة منهم في سفر فجرى ذكر التوكل، والأرزاق وضعف النفس، فقال ذلك الشيخ: عليّ وعليّ وحلف بأيمان مغلّظة لا ذقت شيئاً، أو يبث الله إليّ جام فالوذج حار - نوع من الحلوى - ولا آكله إلا بعد أن يحلف عليّ، أو يجري عليّ مكروه، وكنا نمشي في الصحراء، فقالت الجماعة المرافقة، أنت جاهل، فمشينا حتى انتهينا إلى القرية، وقد مضى على صاحبنا يومان وليلتان، ولم يطعم شيئاً، ففارقتْه الجماعة غيري.
فطرح نفسه في مسجد في القرية، وقد ضعفتْ قوته وأشرف على الموت، فأقمت عنده، بعد أن ضعفت قوته.
فلمّا كان في الليلة الثالثة، وقد انتصف الليل، وكاد يتلف، دُقّ علينا باب المسجد، ففتحته فإذا جارية سوداء، ومعها طبقٌ مغطَّى فلما رأتنا قالت: أنتم مِنْ أهل القرية، أمْ غرباء؟
فقلنا: بل غرباء، فكشفت عن الجام - يعني الإناء - وفيه فالوذج حارّ، من أنواع الحلوى الجيدة، فقالت: كُلوا.. فقلتُ لصاحبي: كُلْ. فقال: لا أفعل. فقلت له: والله لا أكلْتُ أو تأكُلْ ووالله لتأكلنّ، لأبرّ قسمه.
فقال: لا أفعل. فشالتْ الجارية يدها، فصفعته صفعة عظيمة.. وقالت: لئن لم تأكُل، لأصفعنك هكذا، إلى أنْ تأكل.
فقال لي: كُلْ معي، ولنْ آكلَ وحدِي. فأكلتُ معه، حتى نظّفنا الإناء.
فلما أخذته الجارية لتمضي. قلت لها: بالله عليك، حدثينا بخبر هذا الجام - الإناء - وما فيه من الفالوذج. قالت: نعم أنا جارية رئيس هذه القرية وهو رجل حديد، طلب منا منذ ساعة، فالوذج حار، فقمنا لكي نُصْلِحه وهو شتاء وبرد - تعني الجو - فإلى أن نخرج الحوائج، ونعقد الفالوذج تأخّر عليه، فطلبه.
فقلنا: نعم. فحلف بالطلاق أنه لا يأكله، ولا أحد من أهل داره، ولا أحد من أهل قريته، إلا غريب. فأخذته، وجعلت أدور في المساجد، إلى أنْ وجدتكما، ولو لم يأكُلْ هذا الشيخ، ما أعطيته من الفالوذج لقتلته صفعاً، ولا تَطْلُقْ سيِّدتي.
فقال لي الشيخ: كيف ترى، إذا أراد الله أن يفرّج؟
(الفرج بعد الشدّة 3: 36 - 37).