Al Jazirah NewsPaper Friday  05/02/2010 G Issue 13644
الجمعة 21 صفر 1431   العدد  13644
 

«جدة - المدينة- التي نحبها»
د. سعد بن عبد العزيز الراشد

 

جدة هذه المدينة التي أجْمع أبناء الوطن على حبها، على الرغم من معاناتها المستديمة مع التخطيط والتطوير، ومعاناتها مع زيادة عدد سكانها والمقيمين فيها والزائرين لها. جدة مدينة جاذبة، يحبها الناس ويصبرون على ما

يواجهونه فيها من عقبات، ويتعاطفون مع ما يصيبها بين وقت وآخر من أوجاع وأزمات، بسبب الأمطار والسيول والعواصف، وحرها ورطوبتها. جدة التي كُتِبَ على أهلها وسكانها التعامل مع الواقع، الحلو والمر. جدة التي نقول إنها عروس البحر الأحمر وبوابة الحرمين الشريفين، شئنا أم أبينا ستبقي كذلك على مر الأزمان. إذا فَرِحَتْ جدة فرح لها الجميع، وإن حَزِنَتْ حَزِنَ معها الجميع. حقاً إن جدة غير في كل شيء، ومع ذلك فإن شريحة كبيرة من أبناء الوطن والمقيمين لا يعرفون تاريخ جدة وحضارتها ونموها وازدهارها وأهميتها في بلاد بحجم المملكة، فهي مُنذ القِدَم جسر الاتصال والتواصل مع الحرمين الشريفين وكافة مدن المملكة وبلاد العالم. فتاريخ جدة وحضارتها ارتبط على مر العصور بتاريخ الحرمين الشريفين. لم تأت أهمية جدة من فراغ، فأرضها من بداية التاريخ البشري ممرٌّ للتجارة بين جنوب الجزيرة وشمالها، وشرقها وغربها. كان ساحلها يستقبل السفن والمراكب المحملة بأنواع السلع المجلوبة من البحر المتوسط وإفريقيا، ومن بلاد فارس والهند والصين. ومع بزوغ فجر الإسلام أصبحت جدة من أهم المدن الإسلامية الساحلية على البحر الأحمر، ويَفِدُ إليها أصحاب التجارات من شتي أنحاء المعمورة، واستقر فيها عناصر سكانية من أعراق عديدة. عايشت هذه المدينة العجيبة عبر السنين التقلبات السياسية والأطماع الخارجية والفتن الداخلية. وصفها المؤرخون والجغرافيون والرحالة بأنها «مدينة على البحر» وأنها «فُرْضَة مكة»، «وهي ميناء عظيمة مَحَلُ حَطٍّ وإقْلاع، إليها تنتهي المراكب من مصر واليمن وغيرهما ومنها تُصَدَّر»، وهي «ميقات مَنْ قَطَعَ البحر من جهة عيذاب إليها». دخل الملك عبد العزيز -رحمه الله- مدينة جدة في اليوم السادس من جمادى الآخرة سنة 1344هـ (الموافق 22 ديسمبر 1925م)، مُعْلِناً نهاية المطاف لمرحلة توحيد المملكة. كانت جدة في تلك الفترة مُحاطة بسور يعود بناؤه إلى سنة 911هـ-1511م، لحمايتها من الحملات العسكرية البرتغالية، وغارات البادية في أوقات ضعف الأمن، بل إن جدة كانت محاطة بالأسوار من القرن السادس الهجري (12م). بدأت مدينة جدة من عهد الملك عبد العزيز تشهد مرحلة تغيير وتطوير، بحكم موقعها وأهميتها من بين مدن المملكة. هُدِمَ السور المحيط بها في عام 1367هـ لفك الاختناق عنها، وكان نسيجها الداخلي في تلك الفترة متداخلاً في نطاق السور، يتكون من أربعة أحياء رئيسة متقاربة، وهي حارة البحر، حارة المظلوم، حارة اليمن وحارة الشام. وللمدينة أربعة أبواب: باب شريف، باب البنط، باب مكة، باب المدينة أو باب جدة. واشتهرت المدينة بشوارع رئيسة هي: شارع البحر، شارع الخراطين، شارع سوق الندي، وشارع قابل أو شارع العلوي. ولا زالت جدة التاريخية تحتفظ بنماذج من تراثها المعماري الجميل، ممَّا أهَّلها أن تحظى بموافقة الدولة لتسجيلها على قائمة التراث العالمي، حيث أكملت الهيئة العامة للسياحة والآثار إعداد السجل التوثيقي للمدينة التاريخية، وتم تقديمه إلى لجنة التراث العالمي في منظمة إليونسكو.

شهدت جدة مراحل تطويرية متتابعة، كانت المرحلة الأولى 1369-1376هـ، والثانية 1382-1390هـ، وأُعِدَّ مخطط عام لتطويرها، وشرع في تنفيذه خلال خطط التنمية الأولى والثانية والثالثة. وتوالت على المدينة مشروعات تنموية كبيرة ومتنوعة، سواء المعتمد منها في الخطط التنموية التالية أو ما وجَّهَتْ به الدولة من موارد مالية إضافية. اتسعت المدينة عمرانياً، فمن أربعة أحياء مشهورة في قلب جدة التاريخية، وسبعة ضواحٍ وحارة في عام 1376هـ، قفزت في هذا العهد الزاهر إلى ما يزيد على 66 حياً، إضافة إلى ما تنتظره المدينة من مشروعات تنموية رائدة. وتنامى عدد سكان مدينة جدة من حوالي (30,000) ألف نسمة في عام 1367هـ، ليصل اليوم إلى أكثر من 3.500.000 مليون نسمة، وتستقبل جدة على مدار العام آلاف الزوار، من حجاج ومعتمرين وسواح وغيرهم، لكونها البوابة الأولى لمكة المكرمة والمدينة المنورة. ولا شك أن مدينة جدة حظيت باهتمام خاص من الدولة، وكانت من أولى مدن المملكة التي أشرف على متابعة مشروعاتها التخطيطية في بداية الطفرة الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- عندما كان نائباً ثانياً ثم ولياً للعهد. وتضاعفت الرعاية لهذه المدينة من لدن ولاة الأمر. ووضعت لها دراسات تطويرية مستمرة، بهدف إيجاد نمو منتظم ومتوازن، لمعالجة المناطق السكنية والخدمات الاجتماعية والمرافق العامة. يقول المهندس محمد سعيد فارسي الذي شهدت جدة في بداية توليه أمانتها مرحلة تطوير شاملة: «إن مسئولية التنمية والتطوير لمدينة جدة تقع على عاتق البلدية». وكان الفارسي يرى في جدة مدينة المستقبل، وقال عنها: «ويجب أن يحقق فيها كل المجالات والإمكانيات للتكنولوجيا والتطور المتوقع على أن تُعَبر مدينة المستقبل عن ما ضينا وحاضرنا»، ويقول: «وعلينا تحاشي أن يكون العامل الاقتصادي سبباً لأي نقص في البيئة الاجتماعية والثقافية المحيطة بإنسان المدينة».

عندما أكتب عن جدة فلا أنطلق من فراغ، فقد عشت فيها طفولتي ورعيان شبابي، وكنت مع أقراني نجول كافة أنحاء جدة على دراجة هوائية، ونستمتع بعبقها وما تتميز به من روح تسامحية وتنوع في تراثها وموروثها. واقتضت حياتي العلمية والعملية أن أشاهد وأقف على تاريخ هذه المدينة العزيزة ومعالمها الحديثة، وما تعانيه من أزمات، وما أصابها من اختناق وترهل. وطفت مرات عديدة مع كبار المسئولين وأهل الرأي والخبرة، في أحياء جدة القديمة والحديثة وعلى الأحياء العشوائية فيها. ولمست عن قرب تطلعات ولاة الأمر بأهمية إعادة البريق التاريخي والحضاري لمدينة جدة، وإعادة تنظيم نسيجها المعماري وتسهيل الحركة السكانية فيها، وفَتْح فرص لمنافذ الاقتصاد والرزق الشريف لأبناء جدة وسكانها. وقد سعدت كما سعد أهل جدة، عندما دشَّن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الانطلاقة الشاملة لإعادة جمالية جدة، والشروع في تنفيذ مشروع حضاري واقتصادي كبير، مشتملاً على إزالة المباني العشوائية وربط أحيائها التاريخية ونسيجها العمراني مع المنشآت العصرية، والأخذ بالاعتبار إنشاء بنية تحتية قوية. وسعدتْ جدة بأن يشرف على هذا المشروع التطويري الرائد - مع غيره من المشروعات في منطقة مكة المكرمة - صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، المعروف ببعد نظره وحزمه وعزمه وخبرة سموه الإدارية والتخطيطية.

وأختم حديثي بالإشارة إلى المأساة المؤلمة التي وقعت في مدينة جدة يوم الأربعاء 8 ذي الحجة 1430هـ (25 نوفمبر 2009م)، وما أصاب أهلها وساكنيها والمسافرين والحجاج من ألم، نتيجة للسيول الجارفة التي أهلكت أعداداً من البشر، وألحقت أضراراً وخراباً في البنية التحتية والمساكن والمباني وغيرها. كانت هذه الفاجعة قاسية ومؤلمة ليس على جدة لوحدها فحسب، بل على أبناء الوطن وكل المحبين لدولتنا وشعبها. ولحجم هذه الكارثة صدر الأمر الملكي الحكيم والتوجيه الكريم من ملك الحكمة والإنسانية خادم الحرمين الشريفين (أ-191) في (13-12-1430هـ) الذي تضمن تشكيل لجنة تحقيق عاجلة لتقصي الحقائق في أسباب الفاجعة وتحديد مسئولية كل جهة حكومية أو أي شخص له علاقة بما حدث، وصرف مليون ريال لذوي كل شهيد مات غرقاً في الأمطار والسيول التي شهدتها جدة. ونسأل الله تعالى أن يتكفل من لقي حتفه بالمغفرة والرحمة وأن يلهم ذويهم الصبر على ما أصابهم. وها هي جدة بقيادة الأمير خالد الفيصل تعالج ما أصابها من ضرر، وهي موعودة -إن شاء الله- بنقلة جديدة وشاملة في هذا العهد الزاهر. ومهما كان لهذه الكارثة من أثر على جدة وأهلها، فإن معالجة ما أصابها ومعرفة الأسباب والمسببات، هي الآن تحت نظر اللجنة الأمينة التي وجه بتشكيلها خادم الحرمين الشريفين، وستعرض نتائجها على نظره الكريم للتوجيه بما يقضي به العَدْل والإنصاف. وعلى أي حال فإن الكارثة التي أصابت جدة قد تحدث في أي منطقة من مناطق المملكة، وقَدَرُ الله على البشر محسوب في اللوح المحفوظ، ومع ذلك فإن ما حدث في جدة يجب أن يكون درساً تستفيد منه كافة أجهزة الدولة وأبناء الوطن على حد سواء. وبعض أسباب هذه الكارثة مؤشراتها معروفة مسبقاً ومن بديهياتها سوء الإدارة والمتابعة لتنفيذ المشروعات، والاستخدام الخاطئ للأراضي والتعدي على بطون الأودية والمساييل والشعاب. ومما يؤسف له أن المهندسين والمخططين للمدن ومرافق الخدمات لم يستفيدوا من خبرات العلماء السابقين الذين عمروا الأرض وأنشأوا المدن في مشارق الأرض ومغاربها، وأخذوا بأحكام البناء في الإسلام. وفي القرآن الكريم آيات فيها دروس وعبر، والأحاديث الشريفة فيها من الدروس والمواعظ لو التزمنا بها في تخطيط المدن لتجنبنا الكثير من المشكلات. فقد ورد في صحيح البخاري «أنَّ رجلاً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وتقطعت السبل، فادع الله. فدعا الله فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة. فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت وتقطعت السبل وهلكت المواشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم على ظهور الجبال والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر. فانجابت عن المدينة انجياب الثياب».

ومن هذا الحديث يتبين أن الجبال والآكام وبطون الأودية والسهول ليست مواطن للسكن والبناء، ولكن مع الأسف فإن معظم المدن في بلادنا قد تمددت بشكل عجيب وغريب، والنتيجة نشهدها عند سقوط الأمطار فتتحول الشوارع والميادين والحارات إلى أنهار وبحيرات ومستنقعات، وتصبح الأنفاق مصايد للبشر.

ستبقى كارثة جدة محفورة في ذاكرة الوطن. وأقْترح على سمو الأمير خالد الفيصل أن يجعل لها معرضاً دائماً، لتصوير أبعاد الحدث ويبرز جهود الدولة والمواطنين في التعامل مع هذا الحدث، وأخذ العبرة والاعتبار من هذه الكارثة. ومهما حدث في جدة فهي المدينة التي نحبها، وسيبقى حبها في كل القلوب. وأرجو أن يسمح لي الشاعر ابن الشاعر عبد الإله محمد إبراهيم جدع باستعارة هذه الأبيات التي قالها في جدة:

«يا درة البحر يا شوقا بداخلنا

يجري كما الدم في الأعراق ينتقل

أنت العروس لكل الناس قاطبة

فريدة الحسن لا ند ولا مثل

يا جدة الأمس يا داراً تظللنا

عشنا بها زمناً يحلو بها العزل»

alrashid.saad@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد