كثيراً ما نردد الشكوى بأن التعليم أصبح (ذاكر، انجح، انس) وهذه المقولة وإن كانت تعبر عن شيء من الواقع الذي يعكس مدى خطورة التعامل مع التعليم على أنه وسيلة للوصول إلى الوظيفة، أو هدفه الحصول على شهادة تخرج، لكنها تمثل اسلوب عجز عن مواجهة الواقع وفي الوقت ذاته تعكس مدى الإحباط الذي أصاب البعض جراء مخرجات التعليم، والتهاون في اعتبار التعليم أمانة والوظيفة أمانة وان خدمة المجتمع والدولة أمانة.
وغابت عن كثير منا حقيقة ان على الفرد ان يعمل ولا يبني حياته على مفاهيم الآخرين ولا يعتمد على نقد الآخر وتحميله تبعات الفشل أو الإحباط، وأنه لا يوجد قانون الآخر على طول، بل أنت ستكون الآخر بالنسبة لآخرين يمكن ان يلقوا عليك اللوم في فشل ما، ولكن علينا ان ندرك انا وأنت وهو وهم جميعا نشكل (نحن) و(الآخر).
وإذا استطعنا توسيع قاعدة (أنا) لتصبح (نحن) سيكون أداؤنا بمسؤولية، واستشعار للأمانة الملقاة على عاتق كل منا، ومن ثم سيكون إخلاصنا في عملنا، لا يحتاج إلى رقيب، بل ستكون رقابتنا الذاتية هي المحك والفيصل، وهي النبراس الذي تسير عليه أعمالنا، وعندها ستؤدى أعمالنا بكل أمانة وإخلاص.
لنرفع شعار (الاصلاح يبدأ من عندي) و(التعليم يبدأ من هنا) ثم نسعى لتعليم أنفسنا، كيف نعمل، كل منا من خلال موقعه يستطيع ان يضرب مثالا في التعلم الصحيح، وفي كيفية العمل بإخلاص وأمانة، وهذا يقودنا إلى أخلاقيات العمل، ومنهجية الأداء.
والمسألة برمتها ترجع لملكات كل فرد وامكانياته، سواء من ناحية تعليمية أو عملية، وإلى قدراته في فهم المطلوب والممكن والمتاح، وإيجاد فلسفة ذاتية تحقق له تنفيذ ما يصبو إليه، وعندما تحتاج القدرات الذاتية، يحملها كل فرد يسعى إلى النجاح، والتي يمكن اكتسابها من خلال الدراسة والتجارب إلى مزيد من الدعامات وعناصر التعضيد والمؤازرة تبرز الملكات الفردية - فهما واستيعابا وأداء - وتظهر الفوارق الذاتية بين شخص وآخر، كأدوات حيوية لابد من اصطحابها للمضي في مسار العمل الجاد تلك القدرات تزحزح عملية الاداء (تعليما وعملا) لتخرجها من إطارها الوظيفي، وتدفع بها نحو الآفاق الفسيحة للمسؤولية، وتفتح بذلك أمام العقول والملكات فضاءات أكثر رحابة، يكون التحليق فيها بجناحي المكتسبات التعليمية والعملية، والدوافع والملكات الذاتية نوعا من السياحة في عالم الإنسان وقدراته وقناعاته، وإخلاصه مع نفسه قبل النظر إلى ما يزعم ان سلبيات الآخرين أو اتهامهم بالتقصير.
الطالب في حقول العلم إذا نظرنا إلى العملية التعليمية باعتبارها حلقة لا تكتمل التنمية إلا بها، وأن مسألة إجادته التعليم هي قضية وطنية قبل أن تكون طموحا ذاتيا، سيكون ذلك الأساس المتين للبناء الوطني الذي ينتظر الجميع، والذي لابد لكل فرد ان يضع بعض لبناته في مرحلة ما من مراحل حياته.
المعلم في مدرسته ومعهده وجامعته حين ينظر للطالب باعتباره أمانة في عنقه، سيخلص في تعليمه، ونصحه وبذل الجهود من أجل الاسهام في صلاح مستقبله، وبالتالي سيكون أمينا في أدائه، صادقا في توجهه، مشاركا في بناء وطنه، وكذلك الموظف في كل موقع من مواقع العمل، يجدر به أن يعرف ما هو مطلوب منه، وأن يتعلم كيف يعمل ولماذا يعمل ومتى يعمل حتى يكون عضوا فاعلا في عملية البناء، وإن لم يكن كذلك فسيكون معول هدم إذ لا خيار آخر بينهما.
في كل المواقع، لابد لكل منا أن يستشعر الأمانة والمسؤولية والأخلاق المهنية، أن يحس بأن تقصيره او تهاونه سيكون سببا في هدم ما بناه الآخرون، وأن تفريطه بالأمانة هو خيانة عظمى تجاه نفسه ودينه ووطنه وأهله، وأنه لا يمكن لوم الآخرين في التعلم أو التثقيف أو الروح الوطنية ما لم نخرج انفسنا عن هذه الدائرة، وانه لابد من ان ندرك اننا شركاء في البناء والهدم كل من موقعه، وفي مجال تخصصه وبحسب نيته وبذله ودوره سواء كان ايجابيا او سلبيا فسيحاسب عليه يوما ما.
إذن القضية تتعلق في المقام الأول بالقناعة الذاتية، وان المرء حينما يريد تحقيق هدف ما، لابد أن يبدأ بما يليه من دور ثم يطالب غيره بالقيام بأدوارهم، ولا يجدي الاتكال أو التواكل بل الجميع في سفينة واحدة كل فرد يدفع من جهته، ويمنع تسرب الماء إلى داخلها، وكل على ثغرة، إذا أهمل فيها، عم الضرر الجميع، وهذه منهجية جماعية ترتقي بأداء الأفراد، وتقود إلى سيادة المسؤولية الفردية، وأخلاقيات المهنة، والقيام بالأمانة، وتعليم النفس ثم الالتفات للآخرين.
Tb787@hotmail.com