الحمد لله يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ليس بينه وبين أحد نسب، كتب على خلقه الفناء، وتفرد بالبقاء والكبرياء.. وبعد:
|
فمن نعم الله العظيمة على هذه البلاد الطيبة المباركة أنه تفضل عليها برجال نذروا أنفسهم لخدمة دينهم ووطنهم ومجتمعهم من خلال مشاركتهم الفاعلة في دعم المجالات الوطنية والخيرية والاجتماعية. بذلوا في سبيل الخير الجهد العظيم، فحمد الله جهدهم وشكر سعيهم وعملهم وسجل آثارهم خيراً للبلاد والعباد.
|
ومن هؤلاء الأفذاذ البارزين الذين يكاد الجميع يجمع عليهم هو الشيخ صالح بن مطلق الحناكي - رحمه الله رحمة واسعة -.
|
ولقد فُجعنا وفُجع الجميع بوفاة هذا الرجل الصالح البار الذي يعتبر ركناً من أركان وطننا الحبيب ووجيهاً من وجهاء المنطقة، ورجلاً من رجالات بلادنا، هو عميد محافظة الرس كلها صاحب الأيادي البيضاء والبذل والعطاء أب المساكين واليتامى في سيرته ومسيرته، مثال للرجل الصالح والإنسان المثالي في علاقاته وتعامله مع أبناء مجتمعه مَنْ يعرفه ومَنْ لا يعرفه، محب للخير، كريم بأبهى صور البذل والعطاء عن أريحية وطيب نفس، يصدق فيه قول الشاعر:
|
تراه إذا ما جئته متهللاً |
كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
تعود بسط الكف حتى لو أنه |
أراد انقباضاً لم تطعه أنامله |
لقد عرف الجميع أبا مطلق رجلاً كبيراً في مكانته، تأسرك خلاله الكريمة، وتدفعك إلى احترامه وتقديره خصاله الحميدة ومواقفه المشرفة؛ لأنه يتعامل مع الجميع بأخلاق الرجال الكبار بكل ما تحمله من أريحيه وتواضع ونخوة وشهامة. نعم لقد عرفه الناس رجلاً عظيماً في تواضعه، عظيماً في أخلاقه وصفاء سريرته وحرارة إيمانه وحبه للخير ومساندته للمحروم وكثرة إنفاقه وطاعته للحق - جل وعلا -.
|
عاش - رحمه الله - مخلصاً لدينه ومليكه ووطنه، لا يدخر جهداً في السعي لتحقيق رغبة المحتاجين بقلب مفتوح وبنفس سمحة رضية.
|
وقد زاده الله من فضله وواسع رزقه، ولم يزده البذلُ والعطاء إلا خيراً مضاعفاً مصداقاً للآية الكريمة: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}.
|
إننا إذا نظرنا إلى كثير من الناس نجد أن الله مَنّ عليهم وأجرى المال بين أيديهم ورزقهم الرزق الواسع، ولكن كم من هؤلاء من وُفّق لتسخير المال وتوظيفه فيما ينفع دينه وأمته ومجتمعه فكان من المغبوطين، قال عليه الصلاة والسلام: «لا حسد إلا في اثنتين»، وذكر منهما «رجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار».
|
كم نحن ومجتمعنا بحاجة إلى هذا النوع من الرجال، الذي لا تكاد تلتفت إلى منشط من مناشط الخير إلا وجدته مسارعاً إليه ومبرزاً فيه.. إن اتجهت إلى الجمعيات الخيرية بجميع أنواعها ومكاتب الدعوة وتحفيظ القرآن وجدت له نصيب الأسد، وإن اتجهت إلى الأوقاف الخيرية وجدت له المساهمات الفعَّالة، وإن اتجهت إلى النواحي الخِدْمِيَّة من فروع التعليم أو المستشفيات والمرضى وجدته من المسارعين إلى البذل والعطاء؛ فلا تكاد تلتفت يمنة أو يسرة إلا وجدته متصدراً سابقاً لغيره، وحينما يذكر هذا النوع من الرجال في بلدنا الحبيب فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان الشيخ صالح بن مطلق الحناكي - رحمه الله - الذي حاز قصب السبق في المسارعة إلى أبواب الخير بشتى أنواعها. إنني لا أقول ذلك من باب الثناء المجرد، ولكني أقول ذلك من باب رد الفضل لأهله، وليكون ذلك دافعاً ومحركاً للعزائم وإشعال نار القدوة والتنافس في ميادين الخير والعطاء {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}، وعزاؤنا في هذا المصاب الجلل أن الله سبحانه وتعالى كتب الموت على كل أحد؛ يقول الحق تبارك وتعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، ويقول سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}.
|
وها هي الدنيا كلها تسير إلى نهاية لا مناص عنها ولا مفر.
|
اصبر لكل مصيبة وتجلد |
واعلم بأن المرء غير مخلد |
وإذا أردت مصيبة تسلو بها |
فاذكر مصابك بالنبي محمد |
كما يعزينا أن الفقير لقي رباً رحيماً لا يضيع عنده عمل عامل ولا أجر محسن؛ فالله تعالى هو الرؤوف الرحيم، ورحمته وسعت كل شيء؛ فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله ممن قال فيهم رسولنا عليه الصلاة والسلام: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله»، وذكر منهم «رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
|
ونحسب أنه ممن قال فيهم رسولنا صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبَّه؛ فيحبه جبريل؛ فينادي جبريلُ في أهل السماء إن الله يحبُّ فلانا فأحبُّوه؛ فيحبه أهلُ السماء، ثم يوضعُ له القبول في الأرض فذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}».
|
نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكيه على الله، كما يعزينا بشرى رسولنا عليه الصلاة والسلام حين قال «من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة»، وقد أجمع الناس من قريب ومن بعيد على محبته والثناء عليه بالخير والإحسان، والناس يشهدون له بما قدَّم من خير وبر، ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: «أنتم شهداء الله في خلقه».
|
رحل الشيخ الصالح الذي اجتمعت فيه خصال الخير كلها بعد معاناة مع المرض الذي أسأل الله أن يجعله تطهيراً ورفعاً في درجاته.
|
فرحماك يا رب، أهكذا يطوى بساط العمر، أهكذا ينتهي كل شيء في طرفة عين.. إن حياة لا تدوم على حالٍ أبداً حياة لا تساوي - والله - شيئاً، فكم تغترُّ بها، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
|
كلُّ من بكى فيها على ميت سيُبكى عليه غداً، وكلُّ من حَمَل فيها جِنازة سيُحْمَلُ غداً، وكل من رجع عن الجنازة اليوم سيُرجع عنه غداً.
|
أرأيتم تلك العيون التي ذرفت الدموع لوفاة الشيخ هل ستبقى بعده؟ لا والله ستُنذْرَفُ عليها الدموع غداً، أرأيتم تلك الحشود التي شيَّعت الجنازة هل ستخلد بعده؟ لا وربي إن لها موعداً، أرأيتم تلك الجموع التي أدت الصلاة عليه هل ستسلم من الموت بعده؟ لا والله بل سيصلى عليها في وقتها {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
|
كلُّ باكٍ فسيُبكى، وكل ناع فسيُنعى، وكل مذخور سيفنى، وكل مذكورٍ سيُنسى، ليس غير الله يبقى، مَن علا فالله أعْلى.
|
ألم يقل الله لنبيه محمد أكرم الخلق عليه وأشرفهم لديه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ }، وليت الأمر ينتهي عند الموت لهان ذلك، وما هو بهين، لكن ما بعد الموت أشدُّ من الموت.
|
قال زُرْقان: لما احتضر الواثق، وكان خليفة ملكاً ردَّد هذين البيتين:
|
الموت فيه جميع الخلق مشترك |
لا سُوقه منهم تبقى ولا ملك |
ما ضر أهل قليل في تفرقهم |
وليس يغنى عن الأملاك ما ملكوا |
ثم أمر بالبسط فطويت وألصق خده بالتراب وجعل يقول «يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه». لا إله إلا الله لحظات عصيبة ستمر بي وبك.
|
فماذا أعددنا لها؟ نعم لقد رحل الشيخ ولكن كما يرحل العظماء، فالعظماء يرحلون بأجسادهم وتبقى مآثرهم وأفعالهم شاهدة لهم، لكن السؤال الأهم: كيف يكون رحيلي ورحيلك؟ هل سألنا أنفسنا يوماً هذا السؤال؟ هل فكرنا بأن يكون لنا مشروع ولو كان صغيراً أيا كان نوعه لا يعلم به إلا الله. فأبواب الخير متنوعة، مشروع يصلنا ثوابه ونحن في قبورنا قد نسينا الأهل والأصحاب فلم يذكرنا ذاكر ولم يزرنا زائر، أم أنها ستمضي بنا السنون وتخترمنا المنون ونحن لم نقدِّم زاداً لحفرنا.
|
والله إن السعيد من تدبر أمره وأخذ حذره واستعد ليوم لا تنفع فيه عبرة، هل لك من الدنيا إلا حفرة ضيقة تحويك وقبر مظلم يؤويك ثم إلى جنة أو نار.. أسْأل الله بمنه وكرمه أن يعيذنا ووالدينا من النار.
|
كما أسأله سبحانه أن يغفر للفقيد، وأن يحسن مثوبته ويجزيه على ما قدم خير الجزاء، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يبارك في خلفه وذريته ويوفقهم إلى السير على دربه واتباع نهجه في البذل والعطاء وحب الخير، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
|
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
|
- إمام وخطيب جامع الشيخ صالح بن مطلق الحناكي بمحافظة الرس |
|