الشيوعية إعصار كبير مرَّ على العالم من أقصاه إلى أدناه, رجَّ مسلماته وغيَّر الكثير من ملامحه ابتداءً من جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية مروراً بالساحة الحمراء في موسكو وانتهاء بتنين ماوتسي تونغ الصيني, ذلك الإعصار لم يخلف وراءه سوى أجيال تحاول أن تكنس من ميادينها وساحاتها ماضي الأجداد والثورات والدماء وصفوف الجمعيات التعاونية الأردية الكئيبة والبطاقات التي كانت توزع الطعام المحدود بدون فائض (الفائض هو عدو الشيوعية الأول) وتنعتق من نظرية أسرفت التهويم في عالم المثال فأنبتت صلتها مع الواقع.
(سؤال المرأة) The woman question عنوان كتاب قديم رثّ وقع في يديَّ الأسبوع الماضي، يحوي مقتطفات من أقوال (ماركس - لينين - إنجلز) حول المرأة ووضعها في المجتمع، عبر نظرية صراع الطبقات وتوزيع السلطة داخل المجتمع وأصل العائلة.
لا أدري لربَّما المقتطفات جمعت من خطب سياسية جماهيرية، فالحماس الانفعالي يبدو جلياً بين صفحاته على حساب الطرح الموضوعي الفلسفي، ولكنه جعلني أتساءل، ما التركة التي خلفتها تلك الشعارات والحماس للمرأة؟ هل هناك منجز تمكين وتفوق تاريخي حققته المرأة في الدول التي كانت خاضعة للحكم الشيوعي دون نساء العالم ويحسب لصالح الأيدلوجية؟
الواقع يقودنا إلى العكس، فعندما زرت قبل سنوات قليلة جمهورية التشيك (تشيكسلوفاكيا) سابقاً، والتي كانوا يعتبرونها جوهرة الإمبراطورية الحمراء، ولم أجد سوى شعوباً تريد أن تتحرر من ماضيها، ونساء تريد أن تنزع عن جلدها الماضي الكئيب الشحيح، وتجد لها حيزاً أو عملاً في النمسا المجاورة، ولعل روايات الروائي العالمي (كونديرا) من أجمل الروايات التي تبرز قسوة تلك المرحلة، بل وقسوة الأيدلوجيا على وجه العموم، فالأيدلوجيا هي الصندوق الأسود التي تسقط فيها الحياة بجميع حيويتها ونبضها وتدفقها ويغلق عليها لتستجيب لعالم الأفكار والمثل، في كتيب (سؤال المرأة) تتبدى لي جميع خصائص الفكر المؤدلج المقولب داخل وهم تمامه:
- الأيدلوجيا لابد أن تلوح بحلم أو مثال براق وزاهٍ ومكتمل مقارنة بالواقع.
- لابد أن توجد لها عدواً شيطانياً شريراً تلقي عليه باللوم وكل أخطاء المجتمعات وشرورها وآثامها (البرجوازية) كمثال لدى الشيوعية، وبالتالي تشير إلى امتلاكها جميع الحلول لمكافحة العدو.
- الأيدلوجية تفتنها الخطب والمنابر والإنشاء والحماس اللغوي وإثارة الجماهير على حساب الطرح الموضوعي العقلاني.
- الأيدلوجية مغلقة كصندوق مكين لا تستقبل من الخارج أو تتأثر أو تغير مساراتها أو تجرب أن تتأقلم مع المتغيرات أو الطبيعة الكونية في التغير والتبدل، لذا على الغالب يكون طغيان عنادها هو المؤشر الأول على موتها واضمحلالها.
الفراغ الفكري الذي خلفته الشيوعية، هو أكبر مؤشر على أن الحياة أكبر من أن نخضعها للأجوبة النهائية المغلقة على اكتمالها، الحياة تظل مغامرة كونية كبرى عصية على الأجوبة، متمردة على التأطير، ونهرها الهادر سرعان ما يكتسح قلاع الأيدلوجية العنيدة ويذيبها ويلغيها.