من البديهي أن يعرف المرء أن المستحيل لا يمكن تحقيقه وأن الممكن تحقيقه ممكن لمن تتوفر لديه الرغبة والإرادة والتيسير من الله عزَّ وجلَّ. ونسمع أحياناً أن فلاناً من الناس قد حقق المستحيل وهذا الكلام مبالغ فيه فلو كان ذلك الشيء مستحيلاً لما استطاع تحقيقه. ومع ذلك فإننا نفهم من هذا التعبير أن ذلك الشخص قد بذل جهداً كبيراً في سبيل تحقيق ذلك الشيء أو أن ذلك الشيء كان صعباً جداً وقد يستعصي على كثير من الناس تحقيقه. وقد شاع بيتان من الشعر للمتنبي حول هذا المعنى وهما:
|
لما رأيت بني الزمان وما بهم |
خل وفي للشدائد اصطفي |
قطعت أن المستحيل ثلاثة |
الغول والعنقاء والخل الوفي |
ولو رجعنا إلى مفردات هذين البيتين لوجدنا أن الشاعر قد عدَّ الغول والعنقاء والخل الوفي من المستحيلات؛ وذلك مبالغة من الشاعر في أن جعل الخل الوفي مستحيلاً من المستحيلات. وقد نجد له بعض العذر في تلك المبالغة لأن الخل الوفي أصبح سلعة نادرة في هذا الزمن الرديء وما سبقه من الأزمنة الغابرة. وبناءً على هذا الثالوث غير المتجانس وغير الدقيق فإن الكثير عندما يواجهه مستحيل يصفه بأنه من رابع المستحيلات. وعلى كل حال فإن الإمام الشافعي كان أكثر دقة في وصف الخل الوفي حيث قال:
|
وما أكثر الإخوان حين تعدهم |
ولكنهم في النائبات قليل |
ولا شك أن الغول والعنقاء لا أصل ولا وجود لهما في الحياة الدنيا وهما من الخرافات التي سادت عند العرب في زمن الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون بأن الغول من الجن تتغول وتتلون لهم فتضلهم عن الطريق. كما كانوا يعتقدون أيضاً أن العنقاء طائر كبير كان يختطف الأطفال في أزمنة ماضية ثم اختفى. وفي هذا الزمن المتأخر ساد تعبير «السعلو» وهو من الخرافات أيضاً والذي تستخدمه بعض الأمهات أحياناً لتخويف أطفالهن من فعل شيء غير مرغوب فيه لكنه - على كل حال - يقع في دائرة الغول والعنقاء.
|
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى الأخلاء في محكم التنزيل حيث قال: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (67) سورة الزخرف، وهذا أكبر دليل على وجود الأخلاء في الحياة الدنيا وأن الخل الوفي ليس مستحيلاً وإنما يمكن أن نقول عنه إنه نادر خاصة في هذا الزمان الأغبر، حيث تعقدت الحياة واختلت المعايير وطغت المصالح، وسادت المادة على القيم والمبادئ والتقاليد. كما يفهم من الآية الكريمة ضرورة توخي الحذر في عملية اختيار الجليس الصالح والابتعاد عن جلساء السوء مهما كانت الأسباب والدوافع.
|
وتجدر الإشارة إلى أن المستحيل يمكن أن يتحول إلى ممكن بسبب عوامل مختلفة منها التقدم العلمي. كما أن الممكن يمكن أن يتحول إلى مستحيل أيضاً بسبب عوامل مختلفة منها العامل البشري. ومن المعلوم أن المستحيل والممكن مصطلحان متضادان إلا أنهما متداولان كثيراً بين الناس هذه الأيام ولا ينافسهما إلا مصطلحي «الأجندة واللوجستية» المأخوذين حديثاً من اللغة الإنجليزية واللذين يترددان على مسامعنا صباح مساء في وسائل الإعلام العربية والأجنبية. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
|
*عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة |
|