النجوم الكبيرة تظل ترسل ضوءها مهما تراكمت حولها السحب، تزداد تألقاً في الليالي المظلمات. والمعادن الأصيلة لا تفقد قيمتها بتقادم السنين، والهامات العالية لا تنال منها أيدي الظالمين، والذين آمنوا -وظُلِموا بسبب إيمانهم- يدافع عنهم ربهم من فوق سبع سماوات في كل زمان ومكان.
والذين آمنوا -وظُلِموا بسبب إيمانهم- يدافع عنهم ربهم من فوق سبع سماوات في كل زمان ومكان. والشاعر عبده بدوي (1927- 2005م) أديب عربي كبير، ومفكر مستنير، وباحث قدير، ومبدع متعدد المواهب أثرى المكتبة العربية بصنوف من إبداعاته ودراساته وفكره، وهو قبل هذا كله وبعده شاعر كبير لم ينل حقه من التقدير، ولم تنل دواوينه ما تستحق من الذيوع والصيت والانتشار.
أصدر في حياته خمسة عشر ديواناً شعرياً: (شعبي المنتصر) 1958، (باقة نور) 1960م، (الحب والموت) 1960م، (الأرض العالية) 1965م (لا مكان للقمر) 1966م، (كلمات غضب) 1966م، (محمد صلى الله عليه وسلم) 1975م (السيف والوردة) 1975م (دقات فوق الليل) 1978م، (ثم يخضر الشجر) 1994م، (الجرح الأخير) 1995م، (هجرة شاعر) 1997م، (الغربة والاغتراب والشعر) 1999م، (شاهد عيان) 2000م، (ويجيء الختام أو ما بعد العودة) 2001م.
وقد شغل عشقه للسودان وحبه لإفريقيا مساحة كبيرة من دواوينه الشعرية وجعل بحق الرائد بين شعراء العرب في العصر الحديث في هذا الاهتمام، وقد استكمل هذه الريادة الإفريقية في الشعر بالريادة في مجال الأبحاث والدراسات.
فقد شكل الاهتمام بإفريقيا والسودان حوالي الثلث من مجموع مؤلفاته العديدة من الدراسات النقدية والحضارية يأتي في مقدمتها كتابه الضخم (الشعر الحديث في السودان)، وكتابه الآخر (الشعر في السودان) الذي صدر في سلسلة عالم المعرفة في الكويت، و(شعراء السودان وخصائصهم الشعرية)، أما عن إفريقيا فقد اهتم بدراسة تأثير الحضارة الإسلامية على الإنسان والحياة فكان من مؤلفاته في هذا الشأن (مع حركة الإسلام في إفريقيا)، (شخصيات إفريقية)، (دول إسلامية في الشمال الإفريقي)، (حكايات إفريقيا) (مدن إفريقية) (أفكار حول الإسلام وإفريقيا).
وقد حصل عبده بدوي على عدة جوائز باقتدار معظمها يتصل بإبداعه الشعري ودوره في التحديث والتجديد أهمها جائزة الدولة في الشعر ووسام العلوم والفنون والعلوم من الطبقة الأولى سنة 1977م، وجائزة البحث العلمي من جامعة عين شمس، والجائزة الأولى في التأليف الإذاعي، وجائزة أفضل ديوان شعر عن ديوان (دقات فوق الليل) عن مؤسسة يماني الثقافية.
وأصدر مجلة الشعر المصرية ورأس تحريرها لمدة 12 عاماً كما كان الصانع الحقيقي لأول مجلة عربية تتخصص في الشأن الإفريقي، وهي مجلة (نهضة إفريقيا) التي صدرت في مصر.
وبهذا كان عبده بدوي واحداً من أهم الشخصيات الأدبية التي ظهرت في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين. ولكن التزامه الفكري وتميزه الفني ورفضه استبدال لونه باللون الرائج في ذلك الوقت، ورفضه عن أن يقول أو يكتب مالا يؤمن به لقاء عرض من الدنيا كان وراء المعاناة الشديدة والطويلة التي رافقته في معظم مراحل حياته، وقد دفع ثمنها راضياً محتسباً.
ومع ذلك فإن الصعوبات التي واجهته منذ بداية حياته قد دفعته إلى الريادة والتميز، وقادته إلى جنة الدنيا إفريقيا حيث دلف إليها من باب السودان الذي يسميه قلب إفريقيا الحنون.
فبعد تخرجه من المعهد العالي للتربية بالقاهرة سنة 1954م وجد عبده بدوي الأبواب تغلق في وجهه أمام تحقيق طموحه في الدراسات العليا رغم تفوقه، وبدلاً من أن يُكرَّم وجد نفسه معينا للتدريب بإحدى القرى النائية، ووجد أن بعض زملائه الذين حصلوا على درجات (مقبول) يحصلون على الفرصة التي يستحقها، وأدرك الشاعر الشاب أن التفوق في العلم وحده لا يكفي، فلم يكن له ضابط يسنده ولا قريب من وزير، ولا مسؤول كبير ييسر له أمره، فهو ابن فلاح من قرية الدفراوي بشبراخيت البحيرة قاده حبه للعلم وتفوقه للدراسة في القاهرة.
وضاقت عليه مصر بما رحبت، ووجد عبده بدوي - عندما حانت فرصة للدراسات العليا - أن كل الموضوعات قد تم التسجيل فيها، إلا موضوعاً واحداً عن (الشعر الحديث في السودان) رفضه صاحبه مفضلاً عليه بعثةً إلى أوروبا(!!). وأحس عبده بدوي براحة لهذا الموضوع، والمرء حيث يستريح قلبه، لأن قلب المؤمن دليله. ولم تنزح عن طريقه العقبات إلى هذا الحد، فقد اشتاقت نفسه للسفر إلى السودان؛ إذ لا يمكن أن يكتب عن السودان دون زيارته. لكن نظام التعليم في مصر الذي يقضي على الخريج أن يعمل عدة سنوات في الوطن بعد التخرج اعترض سبيله، ثم يشاء الله أن يُذلل هذه العقبة، ويسخر له الأستاذ فتحي رضوان -الوزير آنذاك- أن يُقدِّر له شاعريته وجديته في دراسته، فيتيسر له الابتعاث إلى السودان في أوائل سنة 1955م، فيزور عبده بدوي السودان لأول مرة، ويرتبط به في قصيدة حب طويلة تستمر حتى آخر عمره.
ومنذ ذلك التاريخ أحب عبده بدوي السودان، ودلف من بابها إلى حب إفريقيا الخضراء، فحصل على الماجستير سنة 1961م فكانت في كتابه الضخم (الشعر الحديث في السودان) أصدره المجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر سنة 1964م في 700 صفحة.
ويُعدُّ هذا الكتاب الآن من أهم المراجع الأصيلة في الشعر في السودان. ومن ثم أصبح اللون الأسود في شعر عبده بدوي ودراساته رمزاً للإشعاع وبالنقاء والعطاء، فلم يكن عجباً أن يكون موضوعه للدكتوراه التي حصل عليها سنة 1969م (الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي) وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 400 صفحة سنة 1970م ورغم أنه حصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى, إلا أنه لم يجد مكاناً له في إحدى الجامعات المصرية. كان البوم يلاحقه ويُضيق عليه الخناق, وظل - كما يقول- يطلق صرخاته متوالية كالسفن التي تغرق إلا أن أحداً لم يجب النداء. وللمرة الثانية يجد نفسه يوجه وجهه تجاه السودان، ويجد الخرطوم تفتح له ذراعيها مرحبة ليستقر في جامعة أم درمان ليبدأ مرحلة عاش به طوال حياته رحمه الله.