قبل ثمانية أعوام.. قدم فنان المسرح المصري الكبير وأستاذه: «محمد صبحي».. واحداً من أجمل أعماله التلفزيونية التاريخية الواعية، هو: مسلسل (فارس.. بلا جواد).. الذي يمكن وضعه ودون أي قدر من المجاملة....
إلى جانب شوامخ المسلسلات المصرية ك»ليالي الحلمية» و «رأفت الهجان» و «بوابة الحلواني» و»الشهد والدموع» و»الراية البيضاء»، التي سطعت بها الدراما التلفزيونية المصرية لسنوات طويلة.. وتفوقت بها على غيرها..!
كانت قصة المسلسل «كوميديا» ضاحكة في إطارها العام.. ولكنها مستوحاة من وقائع وأحداث فعلية من تاريخ نضال المصريين ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر في السنوات الأولى من القرن العشرين، وهي تروي قصة بطل فعلي من أبطال مقاومة الاحتلال آنذاك.. هو: «حافظ نجيب».. الذي قتل الإنجليز والده (ضابط الشرطة)، فقرر الانتقام ل»والده».. ولكل (يتيم) مثله سقط والده شهيداً في ساحة مقاومة الاحتلال، وهو يتعقب جنوده.. حيثما كانوا، ويصادق على ذات الطريق زعيمي مقاومة الاحتلال الإنجليزي: مصطفى كامل ومحمد فريد، ليكتشف أثناء سعيه في مطاردة جنود الاحتلال.. المؤامرات التي كان يعدها اليهود المقيمون في مصر ضد المصريين.. متتبعين في ذلك ما جاء في كتاب «بروتوكولات حكاء صهيون»، وهو كتاب فعلي صدر في عام 1902م، وقد صدق الألمان ما جاء فيه، واعتمدوه أساساً في حملة اضطهادهم وتعذيبهم لليهود.. على يد هتلر وحزبه «النازي» ما بين الحربين العالميتين (الأولى والثانية)، إلا أن الدكتور عبدالوهاب المسيري أستاذ الدراسات الصهيونية الأعظم.. قلل من شأن الكتاب، وقال عنه: إنه (مجرد كلام ساذج)..!
على أن «المسلسل» لم ينس في استكمال قصة (بطله) في مقاومة الاحتلال الإنجليزي ومطاردة جنوده.. استرجاع قصص قريبة منه، ك»تواطؤ الخديوي مع الإنجليز»، أو حادثة «محاكمة دنشواي» الظالمة، وأخرى بعيدة عنه.. ك»تعذيب المصريين في السجون الإسرائيلية»..!
مع عرض الحلقات الأولى من «المسلسل» في رمضان من ذلك العام.. ثارت ثائرة إسرائيل والمنظمات اليهودية ومعها الولايات المتحدة (كالعادة)، حيث اتهمته الخارجية الإسرائيلية ب»معاداة السامية»، وهي تطالب ب»إيقاف بثه، لأنه يتعارض مع اتفاقية السلام لعام 1979م المعقودة بين مصر وإسرائيل، التي تحظر التحريض على الكراهية بين البلدين»، بينما طالب حاخام اليهود الإشكناز:»إسرائيل لاو».. بسحب السفير الإسرائيلي لدى مصر، فتعرض المسلسل تبعاً لذلك.. إلى شد وجذب، أربك عرضه ومواقيتها، فلم ينتظم ويتواصل.. إلا بعد حذف بعض مشاهده ودمج بعض حلقاته الأخيرة في حلقة واحدة، بينما بثته كاملاً.. قناة «المنار» التلفزيونية، إلا أن التلفزيون المصري.. وبعد أن دافع عن المسلسل وزير الإعلام المصري آنذاك ب»أنه لا يمكن أن يعتبر معادياً للسامية».. تمكن من أن يعيد عرضه مرات دون أي قطع أو حذف، ولكن الحماسة لمشاهدته.. كانت قد هبطت إلى النصف وربما دون ذلك، ولقد كنت حينها واحداً من أولئك الذين لم يتمكنوا من مشاهدة عرضه كاملاً..!!
ومرت سنوات طوال.. حتى فاجأ التلفزيون «التركي» جمهوره، والعرب جميعاً - عبر الدبلجة السورية المحكمة الرائعة - بمسلسل جديد.. غير مسلسل «نور» الرومانسي، وبطله الوسيم «مهند».. الذي خطف أبصار المراهقين والمراهقات والشباب من الجنسين، هو «وادي الذئاب: الكمين».. الذي أنتجته إحدى شركات القطاع الخاص التركية، وبثه التلفزيون التركي الرسمي إلى جانب إحدى القنوات الخاصة، وهو مسلسل سياسي لا يتحدث عن كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» التاريخي القديم ب»صورة» ساخرة.. بل يندد ب»إسرائيل» الحاضر، ويفضح جرائمها، ويكشف ربما لأول مرة عن فظائع «الموساد» في اختطاف الأطفال الأتراك «الرُضَّع»، وهو أمر أحسب أن العالم كله.. لم يكن يعرفه أو يتخيل إمكانية حدوثه من قبل، إذ إن قتل الفلسطينيين، واختطافهم، ورميهم في السجون الجماعية أو الانفرادية عشرات السنين.. بل وسرقة أعضائهم البشرية (شبكات، وكلى، وفصوص كبد).. هو الأمر الشائع الذي أصبح في حكم «المعتاد» عند المواطن العربي.. وربما عند العالم الصامت في معظمه على الجرائم الإسرائيلية الفاضحة، أما «اختطاف» الأطفال «الأتراك» الرضع على يد عملاء «الموساد» ورجاله.. فهو الأمر الأعجب والأخطر وعلى كل الأوجه، إذ إنه يضعنا على مقربة من تلك «التعليمات» التي وردت في كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون».. التي لا يصدقها عقل، للاستيلاء على «العالم»..!!
لقد قامت قيامة «إسرائيل».. على المسلسل، وعلى الشركة التي أنتجته، والتلفزيون الرسمي الذي بثه، وعلى «تركيا» بصفة عامة التي أخذت تتغير عن ذي قبل (!!) من وجهة النظر الإسرائيلية.. بل وعلى رئيس الحكومة التركية «رجب طيب أردوغان» نفسه، الذي لم ينجه من عجلة الإعلام الإسرائيلية/ الأمريكية القادرة على الإطاحة بأكبر الرؤوس التي تجرؤ على قول الحقيقة أو بعضها.. إلا اعتراف الإسرائيليين أنفسهم بحقيقة الديمقراطية في تركيا، التي تتيح لـ»إعلامه» وإعلامييه.. بأن ينتقدوا من يشاؤون دون خشية أو خوف إلا من مساءلة القضاء وملاحقته: بدءاً من رئيس الجمهورية.. إلى رئيس الوزراء، ومن أكبر وزير أو محافظ.. إلى أصغر عمدة من عمد قرى الأناضول، أو مدن سواحل البحر الأسود الهامشية. فلا أحد فوق النقد!!
كان الغضب الإسرائيلي.. جامحاً إلى حد التهور و»فلتان» الأعصاب على «المسلسل» وحقائق الممارسات الإسرائيلية التي كشف عنها، وهو الأمر الوحيد الذي يمكن أن تُفسر به مهزلة استدعاء السفير التركي لدى تل أبيب (أحمد أوجوز جليلقل) للاحتجاج على المسلسل.. بتلك الصورة من قبل نائب وزير الخارجية الإسرائيلي «دانيال إيالون»، وبتلك «الصبيانية».. التي عامله بها، والتي رأى مشاهدها التلفزيونية، وصورها الفوتوغرافية.. العالم كله، وهو يقول للمصورين الصحفيين الذين سُمح لهم بحضور ذلك الاستدعاء ب»العبرية»: «انظروا إنه يجلس على كرسي منخفض ونحن نجلس على كراسي مرتفعة»..!! وانظروا «إن هناك علماً إسرائيلياً فقط على الطاولة»..!! وانظروا «إننا لا نبتسم»..!! فكان أليق ما يكون فعله بنائب الوزير.. هذا، هو اصطحابه إلى أقرب مستشفى للأمراض العقلية.. وليس تركه ليعود إلى مكتبه، لو كان للخارجية الإسرائيلية.. وزير آخر غير «أفيجيدور ليبرمان»!!
لقد نجح السفير «جليلقل».. بصمته وابتسامته المندهشة الساخرة، وسقط نائب الوزير.. بطفولته وصبيانية سلوكه، ولخصت صحيفة «ها أرتس» الإسرائيلية الموقف ب»مهنية عالية» عندما قالت: «إن مسرحية الاستخفاف التي أخرجها نائب الوزير داني إيالون في الحديث مع السفير التركي.. تبدو وكأنها مأخوذة من عهد السلاطين»، واختتمت تعليقها قائلة: «من الأفضل لإسرائيل أن تنصت بعناية للانتقاد التركي»، لتتابع بعد ذلك بيانات الاعتذار الإسرائيلية وبرقياته لتركيا، والتي كان أولها «إنصافاً» للسفير.. و»مهانة» لنائب الوزير، لأنه كان يحمل توقيعه!
إن مسلسلي «فارس بلا جواد» المصري.. سابقاً، و»وادي الذئاب» التركي.. لاحقاً، لم يتم إنتاجهما تلفزيونياً بهدف «التربح»، أو بيعهما ل»القنوات الفضائية».. وحدهما، وإن كان كلا الأمرين لا غبار عليهما.. ف»للإنتاج» كلفته ومغامرته.. معاً، إلا أن كليهما مع ذلك لم يصدرا عن فراغ فكري أو سياسي أو معرفي أو حس وطني، فقد تم إنتاج الأول بعد دخول «شارون» إلى باحة الأقصى، ووصوله الصهيوني المحسوب إلى رئاسة الحكومة، واستقبال (بوش الابن) له والترحيب به في البيت الأبيض باعتباره (رجل.. السلام) الذي لا يجد شريكاً فلسطينياً له في إنجاز مهمته (النبيلة!!).. عندها تأكد أن «الفارس» قد أصبح بلا جواد، ولا أرض يركض فوقها.. بل «مكوَّم» على قارعة الطريق.. فكان إنتاج المسلسل، أما الثاني (وادي الذئاب).. فقد تم إنتاجه بعد حرب إسرائيل المدمرة ل»كل» لبنان من أجل الوصول إلى «جنوبه» في يوليه من عام 2006م، فحربها الوحشية الظالمة بعد عامين على «غزة» وبكل ما في ترسانتها من طائرات وصواريخ ودبابات وقنابل فوسفورية.. لإسكات صواريخ «القسام» المحلية الصنع، فحصارها التنكيلي لمليون ونصف المليون «غزاوي»، فرفضها لتقرير «جولديستون»..
لقد حملت تراكمات تلك الأفعال الوحشية الإسرائيلية في النهاية تركيا (أردوغان) على تلك المواقف التي لم تصدق إسرائيل أنها ستأتي من «الصديق التركي»!!، والتي بدأت بانسحاب «اردوغان» من لقائه مع «شيمون بيريز» في منتجع «ديفوس» السويسري.. أمام سمع العالم وبصره، فاتهامه لإسرائيل باختراق الأجواء اللبنانية و»سرقة» مياهه، ف»إلغاؤه» المناورة البحرية المشتركة مع إسرائيل، فمطالبته المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل - وكما هي حال الضغط على إيران - حتى تستجيب لدواعي السلام بإيقاف الاستيطان في أراضي الغير، والتي ستكتمل عندما يتوجه إلى «العريش».. فوق باخرة غوث لنجدة غزة وأهلها، والتي كان من بينها مسلسل «وادي الذئاب» هذا الذي لم يكتبه أو يمثله أو يخرجه «أردوغان»، ولكنهم الفنانون الأتراك.. هم الذين أنتجوه وأخرجوه ومثلوه بحسهم الإنساني، وعرضوه برؤياهم السياسية.. في هذا الوقت، فكان وكأنه «بيان تأييد» من الفنانين الأتراك.. ل»أردوغان» ومواقفه السياسية الشجاعة، التي لم يقو على نصفها كثيرون من أدعياء السياسة..!
فهل جاء زمن ديبلوماسية «المسلسلات».. بعد أن فشلت كل الديبلوماسيات الأخرى في زحزحة إسرائيل عن مواقفها وإصرارها في الحصول على الأرض والسلام «معاً»..؟!
إن المبادرة العربية المطروحة على الطاولة الإسرائيلية منذ عام 2002م.. والتي ماتزال إسرائيل تتعالى عليها وكأنها لا تعنيها، والتي تقوم على مبادلة الأرض ب»السلام» والأمن والتبادل التجاري والحدود المفتوحة.. لو أنها طرحت على المؤسس التاريخي لحكومة إسرائيل «ديفيد بن جوريون» نفسه لسجد وقبّل الأرض حمداً لله على صدورها.. فضلاً عن قبولها والترحيب بها..!
جدة