الإعلام رسالة ومسؤولية، رسالة عظيمة نبيلة تتجلى في ممارسة الدور التوعوي والتثقيفي والتنويري وفق الإطار القيمي لمجتمع المشاهدين الذين يتلقون المادة الإعلامية التي تبث يومياً، وعليه مسؤولية جسيمة تتجلى في احترام عقل المتلقي، والمحافظة على توازنه النفسي والأخلاقي، وتعزيز القيم الإنسانية التي يؤمن بها البشر كلهم.
والإعلام المرئي يعد أحد المجالات الإعلامية الرئيسة التي تتطلب التزاماً صارماً بالمبادئ والقيم؛ كي تضبط أوجه نشاطه عن الزيغ والانجراف في مهاوي الإفساد والتشويه والتشكيك والتأويل؛ لأن للإعلام المرئي، ممثلاً في القنوات الفضائية، قدرة عجيبة على الاستحواذ على المشاعر والسيطرة عليها، وصناعتها وفق الرؤية والغاية التي تؤمن بها القناة؛ لهذا يسهل على الإعلام المرئي تملك وجدان المستهدف؛ وبالتالي توظيفه أداةً لتمرير الرسائل والتوجهات التي أنشئت القناة من أجل نشرها في المحيط الاجتماعي للمتلقي.
وقيمة كل قناة ليست في أقوال المادحين لها، أو المنفعلين المتفاعلين معها، بل فيما يقر في أذهان العقلاء من المتلقين، وبمقدار التزامها بالمبادئ وبالمعايير المهنية، والقيم الأخلاقية، هؤلاء وهذه هم الأصدق في التعبير عن مدى ما تحقق من نجاحات؛ فتقويم العقلاء للجهد والنشاط الذي يمارس هو المرآة الحقيقية التي تعكس مدى المصداقية ودرجة النجاح.
استطاعت إحدى الفضائيات أن تستقطب عدداً من مقدمي البرامج المؤدلجين من مختلف التوجهات الفكرية، إسلامية وقومية، يسارية ويمينية، استقطبتهم لتقديم برامج وفق توجهاتهم الأيديولوجية، وبهامش فضفاض من الحرية بلا حدود، بل الفوضوية إلى حد التقاذف والتنابز بالألقاب، والتشابك بالأيدي وما تيسر على طاولة الحوار، وبتعال يصل إلى حد الغرور، ونرجسية مريضة، وتمجيد للذات يقصر دونه ألسنة المادحين الشحاذين؛ ولهذا حققت هذه الفضائية بهذه السياسة شهرة كبيرة، ومكانة عالية في عقول شريحة واسعة من المتلقين، وتبوأت الصدارة في وجداناتهم؛ لأن كل فئة من المتلقين تجد في توجهات مقدمي البرامج ما يتوافق مع توجهاتهم وما يتطلعون إليه في ضوء معتقداتهم وما يؤمنون به من فلسفات ومفاهيم.
ومن عجائب هذه الفضائية قدرتها على التعامل مع المتناقضات؛ فالمتلقي ذو الاتجاه الإسلامي الحزبي، والقومي العروبي، واليساري الذي تجاوزه الزمن، واليميني المنحني، يجد البرامج التي تداعب مشاعره، وتتوافق مع أهوائه، وتروج للفكر الذي يؤمن به، وتظهر مواقف زعاماته من الأحداث والقضايا الماضية والمعاصرة بصورة إيجابية مثالية لا تخلو من تحيز واضح متكلف، يستخلص منها المتلقي دون تردد صواب الموقف، ولا غرو في ذلك؛ لأن مقدم البرنامج يتبنى التوجه ويؤمن به؛ ولهذا لا يملك المتلقي أثناء متابعة البرنامج وبعده إلا الدفاع عن المضامين التي تم تناولها، وتبني المواقف والمفاهيم التي تم الترويج لها، ولاسيما أن الطرح يتم من طرف واحد، يروج له من قبل مقدم البرنامج الذي وضع نفسه مدافعاً عن الفكرة التي يطرحها، ونصب نفسه محامياً لها وعنها، وفي الوقت نفسه يستغل المقدم المنبر ليبدو خصماً عنيداً للأفكار الأخرى، وخاصة تلك التي لا تتوافق مع معتقداته أو تلك التي حاولت تعرية الخفايا والخبايا التي تم تبنيها من قبل تياره الفكري، على الرغم من أنها مؤسفة تحكمت فيها العواطف، وبعدت عن العقل والمنطق والمصالح المشتركة التي يفترض أنها جامعة لا مفرقة، ليس هذا فحسب بل تبين أن أمثال مقدمي هذه البرامج يلمزون التوجهات الفكرية الأخرى، ويطعنون فيها ويشككون في نوايا القائمين عليها بصورة مباشرة متعسفة مجانبة للحق والصواب، المهم عندهم أن تظهر التيارات الفكرية الأخرى المضادة لتيارهم الفكري بمظهر المهزوم، أو المتخاذل الذي ينحني أمام العواصف حيناً، ويتعاون معها ويدعمها أحياناً أخرى، أو الصانع للأزمات والتوترات والخلافات.
الزبد مهما علا، لا قيمة له، وسوف تذروه الرياح بعد أن يتبين على حقيقته.