قد يعتقد البعض أن مفهوم المسؤولية الاجتماعيةSocial Responsibility concept إنما هو مفهوم جديد من واقع تزايد تناول هذا المصطلح في الأدبيات العلمية وفي وسائل الإعلام، والصحيح أن هذا المفهوم كان ظهوره في الدول المتقدمة منذ فترة طويلة..
.. حيث إن بعض الدراسات التي تناولت هذا المفهوم يرجع تاريخها إلى ما قبل ثلاثين عاماً، بل إن الأمر في الحقيقة هو قبل ذلك بكثير، فمع ابتكار المحرك البخاري والذي يعتبر ابتكاراً جذرياً أحدث نقلة كبيرة ونوعية في كافة أنماط الحياة وغيّر مجرى كثير من الأمور المتعلقة بالأعمال في وقت سابق، فبواسطته استطاعت المصانع أن تنفذ الكثير من العمليات الإنتاجية وبواسطته استطاعت نقل الإنتاج إلى كافة أنحاء العالم عن طريق القطارات والبواخر وتلبية الطلب أينما كان، كما أن ابتكار هنري فورد لخط الإنتاج في شركته (FORD) الرائدة في مجال صناعة السيارات وما حققه ذلك الابتكار من تيسير وتسهيل العمليات الإنتاجية واختصار زمن الإنتاج وتحقيق مستويات عالية من الكميات المنتجة، يمكن القول بأن هذين الابتكارين بالرغم من تحقيقهما منافع عالية إلا أنهما جعلا الشركات تمضي وتندفع في طريق تعظيم أرباحها وتوسيع عملياتها بشكل كبير من خلال إعادة استثمار الكثير من تلك الأرباح دون النظر إلى الآثار السلبية المترتبة على تلك السياسات الاستثمارية وذلك على البيئة والمجتمع ككل.
إن ذلك الاندفاع نحو الإنتاجية العالية ظهر تأثيره من خلال جوانب أهمها في ذلك الوقت:
1 - استنزاف الموارد الطبيعية والتي تستخدم كمدخلات للعمليات الإنتاجية حتى أنه أصبح هناك خطورة من نفاذ تلك الموارد.
2 - النظرة القاسية والمعاملة السيئة للعمالة وعدم الاهتمام بهم واستغلالهم لزيادة الإنتاجية بكل الأشكال.
3 - ظهور المخلفات الناتجة عن العمليات الإنتاجية الضخمة، وذلك بكافة أشكال تلك المخلفات سوء الغازات التي تنفثها المصانع أو المخلفات الصلبة أو السائلة والتي تعتبر ضارة في البيئة.
4 - ظهور منتجات غير صحية وذات تأثير على الصحة العامة وعلى البيئة.
وبسبب تلك الآثار؛ فقد ظهرت الدعوات إلى تقييد ذلك الاندفاع بضرورة النظر إلى المصلحة العامة للمجتمع ككل ووضع تلك الآثار السلبية بالاعتبار، لقد كانت تلك الدعوات هي الأساس لظهور وتطور مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وقد أعقب ذلك عمليات تطوير لذلك المفهوم وإنضاج على مر السنوات الطويلة وقد اتسع هذا المفهوم ليشتمل على أوجه أخرى يجب الاهتمام بها مثل احترام حقوق الإنسان والبطالة وتوظيف المعاقين وغيرها من قضايا المجتمع المختلفة.
وفي السنوات العشر الأخيرة ازداد الاهتمام العالمي بالمسؤولية الاجتماعية بشكل كبير، وأعتقد أن المحرك الأساسي لهذا الاهتمام هو الجانب المتعلق بالتغيرات المناخية والبيئية الكبيرة التي بدأت تظهر ومنها تأثر طبقة الأوزون وظاهرة الاحتباس الحراري والتي أصبحت آثارها واضحة، ففي في عام 1999م ظهر الاقتراح الأولي للميثاق العالمي للمسؤولية الاجتماعية من قبل الأمين العام للأمم المتحدة السيد كوفي عنان أمام المنتدى الاقتصادي العالمي، وفي عام 2000م أطلق الميثاق العالمي للمسؤولية الاجتماعية بمرحلته النهائية في مقر الأمم المتحدة:
حيث يستند هذا الميثاق إلى مبادئ هي:
- حقوق الإنسان.
- العمل.
- البيئة.
- محاربة الفساد.
وبالرغم من كون هذا المفهوم ظهر قبل فترة طويلة في الدول المتقدمة إلا أننا نجد أن الاهتمام بها لدينا في المملكة العربية السعودية هو حديث جداً، وقد ذكرت إحدى الدراسات أن أول أنشطة للشركات في مجال المسؤولية الاجتماعية في المملكة ظهرت في عام 2005م.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع، فقد تم إدراجه ضمن موضوعات مادة الدراسات المتخصصة وهي أحد متطلبات الحصول على درجة الماجستير في إدارة الأعمال بجامعة القصيم وعند استعراض هذا الموضوع مع سعادة الدكتور عبدالله البريدي أستاذ المادة والمشرف على برنامج MBA بكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة القصيم فقد أكد الدكتور البريدي على ضرورة تبني المسؤولية الاجتماعية وأشار إلى أنه يمكن القول بأنه يوجد بين الشركة وبين المجتمع الذي تعمل فيه عقد اجتماعي يتضمن جانبين: الأول يتعلق بمصالح تلك الشركة في ذلك المجتمع والتي أمكن تحقيقها بعد تقديم تضحيات من قبل المجتمع مثل تمكين الشركة من استغلال الموارد المتوفرة فيه، تنفيذ العمليات في ذلك المجتمع وما قد يسببه ذلك من آثار سلبية صحية وبيئية... إلخ، وفي مقابل ذلك هناك الجانب الآخر ويتعلق باحتياجات المجتمع ومتطلباته ويتوجب على الشركة أن تقوم بالوفاء بها مقابل تلك التضحيات التي قدمها المجتمع مثل الإسهام في تحقيق التنمية لذلك المجتمع، وتوظيف العاطلين عن العمل فيه، ودعم البرامج الطبية، وتقديم التبرعات... إلخ، وبالتالي، يجب العمل على تحقيق التوازن لجانبي ذلك العقد الاجتماعي، وفي حالة تحقيق ذلك التوازن فيمكن القول بأن المسؤولية الاجتماعية قد تحققت وفق وجهة نظر الدكتور البريدي.
ولتحقيق المسؤولية الاجتماعية في بيئة الأعمال السعودية فإنه يلزم القيام بالجهود الحثيثة لإحداث الوعي بأهميتها ودورها، وفي هذا المقال سوف نستعرض أحد النماذج الجيدة للمسؤولية الاجتماعية والذي يمكن للشركات أن تتبناه لتحقيق ذلك التوازن في العقد الاجتماعي الذي ذكرناه، ويمثل هذا النموذج رؤية واضحة وشاملة للمسؤولية الاجتماعية بأبعادها المختلفة، فالعالم كارول (carroll) هو أحد العلماء المهتمين بهذا الجانب من الأعمال، لقد وضع هذا العالم نموذجا للمسؤولية الاجتماعية يتكون هذا النموذج من أربعة أبعاد يمكن تحقيق المسؤولية الاجتماعية من خلالها وهذه الأبعاد هي:
1- بُعد اقتصادي Economic Dimension: ويعني أن المسؤولية الاجتماعية تتحقق من خلال الالتزام بتحقيق المنافسة العادلة ومنع الاحتكارات التي تضر بالمستهلك والمنافسين، وكذلك الالتزام بتحقيق الاستفادة الكبيرة للمجتمع من التقدم التكنولوجي واستخدام ذلك في تقديم الخدمات وكل ما فيه صالح لذلك المجتمع.
2- بُعد قانونيLegal Dimension: ويعني أن المسؤولية الاجتماعية تتحقق من خلال الالتزام بالقوانين التي وضعت لحماية المجتمع من كافة الأضرار مثل قوانين حماية المستهلك من المواد الضارة والمزورة والمزيفة وحماية الأطفال صحياً وثقافياً، وكذلك الالتزام بقوانين حماية البيئة والتي وضعت لمنع التلوث وكافة أوجه الإضرار بها، وكذلك الالتزام بالقوانين المتعلقة بالسلامة والعدالة مثل قوانين إصابات العمل وخطط التقاعد وتوظيف المعاقين...إلخ.
3- بُعد أخلاقي Ethical Dimension: ويعني أن المسؤولية الاجتماعية تتحقق من خلال الالتزام بالمعايير الأخلاقية والأعراف والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع الذي تعمل فيه المنظمة مثل احترام العادات والتقاليد، مكافحة المخدرات والممارسات غير الأخلاقية، مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص في التوظيف.. الخ.
4- البعد الإنساني أو الخيرPhilanthropic Dimension: ويعني أن المسؤولية الاجتماعية تتحقق من خلال الالتزام بتقديم كل ما من شأنه تحسين نوعية الحياة في ذلك المجتمع.
هذا النموذج الذي وضعه كارول يعتبر نموذجا مثالياً بما احتواه من ممارسات، ويجسد الصورة المثالية التي يجب أن تتبعها الشركات لكي تقوم بدورها الاجتماعي على أكمل وجه، وعندما تقوم الشركات بدورها المرسوم في هذا النموذج فإن جانبي العقد الاجتماعي ما بين الشركة والمجتمع تتوازن كفَّتاه، وهذا هو المطلوب. وبالتالي، يتحقق التكافل فيما بين فئات المجتمع، ويتعزز دور تلك الشركات في مساعدة الجهات الحكومية في تحقيق التنمية في المجتمعات.
ونحن إذ نستعرض هذا النموذج فإننا نتمنى أن تتجه الشركات في القطاع الخاص بالمملكة العربية السعودية للعمل به ومحاولة الاقتراب من الصورة المثالية له بقدر الإمكان، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أن هناك بعض الجهود والممارسات الجيدة في هذا المجال ينبغي تفعيلها بشكل أكبر، ومن ذلك تأسيس مجلس للمسؤولية الاجتماعية في منطقة الرياض بجانب وجود بعض الجوائز التقديرية للمنظمات الرائدة في مجال المسؤولية الاجتماعية.
kh.sa.od@hotmail.com