يستحق مساء يوم الأحد الموافق 27-11-1430هـ وفي الجامعة الإسلامية، أن يسجّل حدثاً تاريخياً بالمدينة المنورة، حيث احتشد المئات من طلاب العلم والأساتذة والمفكرين والإعلاميين، لحضور لقاء سمو وزير التربية الأمير فيصل بن عبدالله بهم، وقبل إلقاء الضوء على مضامين الحديث وأهميته ، |
أجد من الضرورة الإشادة بالجامعة الإسلامية ممثّلة بمعالي مديرها الهمام معالي الأخ الأستاذ الدكتور - محمد بن علي العقلا الذي فهم رسالة الجامعة ودورها في الانفتاح على المجتمع وقضاياه ونقل الجامعة في وقت وجيز إلى آفاق أرحب وصورة أفضل للجامعة، حيث أصبحت أكثر تطوراً وتألقاً. |
أما موضوع هذا المقال فهو حديث سمو الأمير الذي أعتبره تاريخياً نظراً، لأنه أول لقاء جاء في رحاب جامعة كانت إلى عهد قريب ذات رسالة خاصة أبعد ما تكون إلى حد ما عن المجال التربوي وإن كانت رسالتها عالمية، وكذلك فهو تاريخي لأنه انطلق من المدينة المنورة (وهي المدينة التي انطلقت منها الرسالة الخالدة وشعّ منها نور المعرفة والتربية الوسطية الحقة التي أسهمت في تغيير قيم البشرية وتطور الحضارة العالمية). ويمكن الآن إيجاز المحاور الأساسية لحديث سموه عن واقع ومستقبل التربية وتحديات العصر، وكذلك المضامين التي عناها ذلك اللقاء الهام والتاريخي. |
أولاً: الخطة الاستراتيجية للتعليم في المملكة: |
لقد تضمّن عرض سمو وزير التربية الكريم أهم ملامح الخطة الاستراتيجية لوزارة التربية (والتي هي الآن معنيّة مباشرة بالذكور والإناث) العديد من النقاط. |
1) تحديث أهداف وسياسات التعليم: |
إنه من الضروري أن يتم تحديث سياسات التعليم لارتباط مخرجات التعليم بها، حيث توجب أن يكون إنتاج المعرفة هدفاً استراتيجياً بعد أن كانت الأولوية ولفترة طويلة ولضرورة السياق التاريخي وحاجته (محور الأهمية وتحقيق الحاجات الأساسية من التعليم)، أما زمننا هذا وفي ظل تحديات السباق مع العالم الأول، كما تفرضه ظاهرة العولمة واقتصاديات المعرفة، فقد تغيرت الأولويات والأهداف للدول وعلى وجه الخصوص مصادر التغير والتحدي والتطوير فيها وهي التربية. ولابد هنا من وقفة في هذا الشأن تخص التعليم في المملكة العربية السعودية ومستقبله، فنحن نعيش في وفرة اقتصادية هائلة لهذه البلاد شاهدها الأكبر بلوغ عدد الطلاب والطالبات في المدارس إلى ما يزيد على خمسة ملايين ونصف، وما يزيد على نصف مليون معلم وثلاثين ألف مدرسة بحسب حديث سمو وزير التربية، وكل ذلك ما هو إلا انعكاس لإرادة وحكمة قادة هذه البلاد بقيادة خادم الحرمين الشريفين والحكومة الرشيدة. وقد أشار سمو وزير التربية إلى أنّ كل ما يخص التربية والتعليم يحظى باستثناء خاص في الدعم والتيسير، وهذا مؤشر هام جداً على نجاح الخطة الاستراتيجية لتطوير التعليم بإذن الله - وهذا كذلك يعكس إيمان قادة البلاد بقيمة التربية ودورها في مواجهة التحديات، والانتقال إلى العالم الأول. إنّ إضافة هدف إنتاج المعرفة وبناء المهارات الشخصية للطلاب في خطة الوزارة وتصريح سمو الأمير بهذا، وكذلك وضع الخطط والآليات لتحقيق هذا الهدف هو انتقال نوعي ومميز سيجعل بمشيئة الله لحاق المملكة بدول العالم المتقدم وتحقيق أهداف وطموحات وأمنيات ولاة الأمور ومواطني البلد، أمراً وارداً جداً. وسيرد فيما بعد تأكيد لبعض الآليات التي ستقود إلى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي. |
2) إطلاق المبادرات والشراكات التضامنية: |
لقد كشف سموه عن رغبة الوزارة في إطلاق المبادرات والشراكات التضامنية بين الوزارة والوزارات ذات العلاقة بموضوع وقضية التعليم مثل وزارة التربية ووزارة التعليم العالي، والمالية والإعلام والثقافة، وكذلك القطاع الخاص وأولياء الأمور الذين يعنيهم تعليم وتربية أبنائهم وتحقيق أهدافهم في الحياة، وقد أفصح سموه عن بشرى هامة تخص التربية والمهتمين بشأن التربية والتعليم، وهي أن أي أمر يخص دعم وتعزيز ومساندة بنود التربية والتعليم، فإن وزارة المالية تقدم وتوفر كل التسهيلات بلا تحفظ، وهذه حقيقة تسر وتفرح كل من كان يقلق ويهتم بعقبة الدعم المالي في تنفيذ المشاريع والأفكار التربوية والتعليمية. |
3) رياض الأطفال والتعليم الابتدائي: |
وقد ألقى سمو وزير التربية بعض الضوء على التخطيط الاستراتيجي القريب والبعيد لرياض الأطفال والتعليم الابتدائي باعتبارها النواة وحجر الأساس لنجاح أي مشروع واستثمار تربوي، والحق أنّ جعل هذه المرحلة وهي السن التي تمتد من ثلاث إلى تسع سنوات تقريباً، هي من أهم مراحل عمر الإنسان فيما يتعلق بتشكيل شخصيته من الناحية النفسية والفكرية والتي تعكس مؤشر النجاح أو الفشل فيما ستكون عليه نمط وشكل الشخصية التي تبنى لها المناهج والمقررات وعليها يؤمل المستقبل. ولقد أثبتت التربية النبوية، كما أثبتت النظريات التربوية والنفسية المعاصرة، أنّ السنوات الست الأولى هي أهم مراحل بناء وتشكيل الطفل وتحديد صحته النفسية، من حيث الاتجاهات والاهتمامات والطموحات. |
وأعتقد أنّ حرص وزارة التربية على الاهتمام بهذه المرحلة، سوف يوفر الكثير من الجهد والوقت في إصلاح خلل التربية وآثارها السلبية في السنوات الأولى، ويتضمّن بإذن الله نجاح الخطط والبرامج والأهداف والسياسات التعليمية. |
4) المعلم - المعلم - المعلم: |
ولقد أشار سموه إلى نية الوزارة ورغبتها في إصلاح وضع المعلم الحالي - حيث إنه ليس على قدر الطموح - وحيث إنه من المسلّم به أن نجاح أي مشروع تعليمي يعتمد بالدرجة الأولى على نجاح المعلم في مهمته - فالمعلم أساس وعماد النجاح في العملية التعليمية، كما كان في الماضي وكما هو ينبغي أن يكون وكما هو الواقع في البلدان المتقدمة تعليمياً وتربوياً. فإنّ المعلم هو الذي يحمل رسالة الأمة إلى التلاميذ والطلاب، وهو الذي يقدم النموذج في المعرفة والشخصية والسلوك وهو الذي يغرس حب الإيمان والمواطنة فيهم ... ولكن كل ذلك لا يتم ما لم يُعَد المعلم إعداداً جيداً وما لم يؤهّل ويحب مهنته ويحترمه ويهابه المتعلم، حيث تتحقق دعوة الشاعر: |
قم للمعلم وفِّه التجبيلا |
كاد المعلم أن يكون رسولا |
|
وقد كشف سمو وزير التربية أن من ضمن خطة خادم الحرمين الشريفين تطوير التعليم والتي أقرت في مجلس الوزراء في محرم عام 1428هـ. هي موضوع في القياس وفي مجال الاهتمام وتطوير معلمي التعليم العام الاهتمام بموضوع قياس كفايات المعلمين، وهذا حقيقة مشروع هام وجدير بالبحث والدراسة، نظراً لأنّ آليات التطبيق والتحقيق تحتاج إلى موازنة مع الحاجة إلى تغطية التعليم بالكوادر الهائلة من المعلمين في المملكة. |
|
ومن ضمن عناصر التطوير والتحديث في خطة التعليم، الموضوع الجوهري وهو المناهج المدرسية، كما أوضح ذلك سمو وزير التربية، وأنّ المناهج المدرسية هي التي تحكم وتحدد مخرجات التعليم وهي غاية وهدف التعليم النهائي، وقد أصبح العالم الأول الآن يركز على إنتاج المعرفة واقتصاديات المعرفة والنواتج الإبداعية للعملية التعليمية وليس التلقين والحفظ. والعلوم والرياضيات على وجه الخصوص هي التي ينبغي أن تكون المستهدفة في هذا المجال، وبخاصة أنّ هناك أولمبياداً وسباقاً عالمياً في هذه المجالات يحدد مواقع الدول في تعليمها ومناهجها لهذه التخصصات ومناهجها. وبالتالي أصبح لزاماً علينا أن ندخل وبقوة في لب المنافسة في هذا المضمار. |
|
والمقصود به هنا كما أشار سمو وزير التربية، هو المباني المدرسية المناسبة والتي توفر المناخ الصحيح للعملية التعليمية، وقد أشار سموه إلى أن النية والخطة التطويرية للتعليم في السنوات القليلة القادمة هي الاستغناء عن المدارس المستأجرة تماماً. ولعمري أنّ هذا من أهم إنجازات الوزارة متى ما تحقق ذلك. |
|
وهذا (المجال) عنصر من عناصر التطوير في التعليم ذلك لأن الكثير من المعارف والقيم والخبرات التي يكتسبها الطلاب وتتشكّل من خلالها شخصياتهم، يأتي من خلال الأنشطة اللاصفية والتي قد تكون وبالاً على الطلاب، إذا لم يحسن إدارتها ولم تحسن برامجها والقائمين عليها، وقد تكون بنّاءة ومثمرة وهادفة ومكملة للمناهج المدرسية، إذا تم التخطيط لها وأشرف عليها وتنفيذها بشكل سليم وبنّاء. |
ثانياً: قضايا تعليمية ووطنية ذات صلة: |
وقد تناول حديث سموه كذلك في المداخلات المختلفة والمتنوعة من أكاديميين ومعلمين ومعلومات وطلاب العديد من القضايا التي تتعلّق بالتقاعد المبكر للمعلمات والعبء الدراسي لهم، وكذلك موضوع التربية والتعليم وعلاقتها بالأمن والحماية الفكرية لأبنائنا الطلاب والطالبات. وغير ذلك من المواضيع التي تهم الشأن العام التربوي مثل وقت الدراسة في المملكة والدوام الجزئي للمعلمات والإدارة التعليمية في المناطق وخلافها. |
قراءة ختامية لحديث سمو وزير التربية |
وفي ختامه هذه الإضاءات أود أن أسجل رؤيتي لمستقبل التعليم في المملكة من خلال حديث سموه. |
1) إنّ حديث سمو الأمير على الرغم من قصر الوقت وإجمالي الحديث، فهو ينبئ عن نية صادقة ومخلصة وخطة محكمة طموحة لتطوير التعليم في المملكة بما يفي بطموحات خادم الحرمين الشريفين في تطوير التعليم واللحاق بالعالم المتقدم. |
2) إنّ طموحات الدولة والمسئولين في وزارة التربية لتطوير وتحسين وتحديث التعليم والمناهج لا يكفي في حد ذاته، بل لابد من مشاركة حقيقية فعلية من الأهالي ومن يعنيهم التطوير من معلمين وطلاب وإداريين، وذلك حتى تؤتي الخطة الإستراتيجية ثمارها. |
3) إنه لابد من التأكيد والتأكيد مرة أخرى عبر كافة المنابر والأصعدة المختلفة، على أنّ الاستثمار الحقيقي للبلد هو في التربية (وأنّ وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة). وأنّ الإيمان بهذا المبدأ سوف يسهم في إنجاح البرامج التي تترتب عليه. |
4) إنّ شخصية الأمة وهيبتها هي في تحقيق المعادلة الصعبة والتي حققتها بعض الدول المتقدمة مثل اليابان في الاحتفاظ بهويتها وشخصيتها وفي لغتها وقيمها، وفي نفس الوقت في تطوير معارفها وفنونها وصناعتها والتكنولوجيا التي تنافس بها أفضل وأعظم دولة في العالم. وهذا ما يجب أن نحرص عليه وتؤكد عليه كثابت من ثوابتنا، كما ينادي به خادم الحرمين الشريفين دائماً، وأن نكون مرنين في نفس الوقت على الانفتاح على العالم المتقدم في العلوم والطب والهندسة وغيرها، للاستفادة منها واستدخالها ضمن برامجنا ونظم تعليمنا وحياتنا. |
5) أن نعزز ونؤكد على مبدأ الحوار بالمفهوم الإيجابي الواسع داخلياً وخارجياً، مع أنفسنا ومع الآخرين، في مناهجنا ومدارسنا ومجتمعنا وأنظمة حياتنا، وفي هذا السياق فإنّ مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني هو ثمرة ومنطلق لهذا الأساس. |
6) إن الحماية الحقيقة لشبابنا وطلابنا من أي انحراف وزلل، ينبع من الوقاية الداخلية التي تأتي من خلال التربية بالدرجة الأولى في مبدئها وبرامجها ومناهجها وأهدافها وآليات تنفيذها. |
7) إنّ ركيزة التطوير في التربية والتعليم تنبع من إصلاح وضع وإعداد المعلم، وإن الأولوية يجب أن تعطى لتحقيق هذا الهدف، وحينئذ فسوف نشهد وضعاً حقيقاً يليق بنا وبمجتمعنا وبأمتنا. |
8) إنه في الوقت الذي نقوم بتقييم برامجنا ومناهجنا وتعليمنا ونبدي بعض الآراء السلبية تجاهها فلا يجوز أن نخلد ذواتنا بشكل يعطل خطوات الإسراع في التطوير، فالتفاؤل يجب أن يسود يومنا ومستقبلها. |
9) إنّ جامعتنا في وضعها الحالي والتي تستقبل مخرجات التعليم العام، أصبحت أكثر استعداداً وتهيئة للبناء على هذه المخرجات ولدعم مسيرة التنمية بالكوادر والكفاءات المهنية العالية ذات الإعداد والإنتاج المعرفي المتقدم. |
10) وختاماً فإنّ على وزارة التربية أن تستفيد من كليات التربية المنتشرة في الجامعات السعودية التي تحوي مئات الكوادر والعقول من المربين والمتخصصين في المجالات التربوية المختلفة من إدارة ومناهج وعلم نفس وأصول تربية وغيرها، أن تستفيد من هذه العقول والخبرات إلى أقصى درجات الاستفادة، لأنّ ذلك من شأنه أن يعزز نجاح خطط الدولة في تطوير التعليم وذلك من مبدأ (أعط القوس باريها). وفي ضوء ما تقدم فإني أشعر بثقة وأمل في أن مستقبل التربية في بلادنا مشرق بإذن الله. |
|