في أحد أيام الرياض المشرقة الجميلة لا يعكر صفوه إلا الزحام المروري والغازات السامة المنبعثة من عوادم السيارات، خرجت لإنهاء بعض الإجراءات الروتينية في أحدى الدوائر الحكومية، وكالعادة المراجعين في كل جنبات تلك الدائرة والتدافع أمام الموظفين، والأصوات تعلو من هنا وهناك، وكانت الفوضى هي المتسيدة، وبعد فترة ليست بالقليلة، ومع التدافع والمزاحمة خرجت منتشياً لإنهاء تلك المعاملة بوقت قياسي حسب معايير تلك الدائرة والكثير غيرها، والذي استغرق قرابة الأربع ساعات، اتجهت بعدها إلى أحد البنوك القريبة لإنهاء بعض المعاملات البنكية، وكان أغلب المتواجدين هم من كانوا يتصارعون قبل قليل في تلك الدائرة، ولكن هنا اختلف الوضع، فالهدوء يعم المكان لا يزينه سوى صوت لوحة الأرقام الإلكترونية المثبتة في كل زوايا ذلك البنك، وتعلن عن أرقام المراجعين أو العملاء حسب الترتيب. ما الذي حصل، ما الذي اختلف، فالمكان قريب من تلك الدائرة، والمراجعون هم من كانوا قبل قليل هناك يتدافعون ويتزاحمون أمام الموظفين.
فعلاً موقف يدعو إلى التفكير والتساؤل، فالقضية ليست وعي وثقافة مواطن فقط كما نسمعها دائماً كمبررات يطلقها الكثير من مسؤولي ومديري تلك الدوائر، فالمشكلة غير ذلك تماماً. فالمواطن الذي يربط حزام الأمان ويتقيد بالإشارات المرورية في دبي ولندن وويلنغتون هو نفس المواطن الذي يزعجه صوت منبه حزام الأمان وهو في سيارته أثناء تجوله في شوارع الرياض.
ما حصل هو أن ذلك البنك أو المنظمة فرضت سلوك إيجابي حسن على مراجعيها وقبلهم موظفيها، من خلال أنظمتها ولوائحها وقبل ذلك إدارتها، وفي المقابل فرضت تلك الدائرة الحكومية سلوك سلبي على موظفيها ومراجعيها من خلال أنظمتها الداخلية وإدارتها، فالمبررات التي نسمعها بين الفينة والأخرى، وعي وثقافة مواطن ما هي إلا شماعة لأخطاء تلك الإدارات وعجزها على فرض السلوك الحسن الإيجابي على عملائها الداخليين، الموظفين، والخارجيين، المراجعين.
فالمشكلة ليست ثقافة مواطن فقط، المشكلة أيضاً إدارية، فنحن كما نحتاج إلى مواطن واع، نحتاج إلى مدير وإدارة واعية تستطيع أن تفرض السلوك الحضاري على الجميع، فهناك الكثير من الدراسات التي أثبتت أنه بالإمكان فرض سلوك معين إيجابي كان أو سلبي على الفرد، من خلال الأنظمة واللوائح وقبل ذلك الإدارة الواعية الناجحة التي تطبق تلك اللوائح والأنظمة وتدير العملية بمرونة وأسلوب إداري ناجح، حتى على مستوى الخدمات والمنتجات، فتستطيع تلك المواد الجامدة أن تفرض سلوكاً معيناً على الفرد من خلال خصائص ومميزات تلك المنتجات والخدمات المقدمة، ألا تلاحظ سلوك الفرد يتغير تباعاً لنوعية لبسه أو سيارته، فسلوك الفرد أثناء قيادته سيارة فارهة غير سلوكه أثناء قيادته هايلكس 82. وسلوكه أثناء حديثه بجوال بلاك بيري غير سلوكه أثناء حديثه بجوال نوكيا الفيصلية.
إذاً فالإدارة الناجحة الواعية هي تلك الإدارة التي تفرض أسلوبها وطريقتها على جميع عملائها، وتفرض السلوك الإيجابي، من خلال أسلوب إدارتها وخدماتها المقدمة، وتترك التهم، وتبرير أخطائها على الغير.