غالباً ما يؤمن البعض وبطريقة متطرفة غير نقدية أحياناً و مشبعة بالعاطفة تجاه المدارس الفنية القديمة ذات القيمة النفسية والتاريخية التي تحاكي الواقع محاكاة تصويرية صرفه، واعتبار الفن الراقي ما هو إلا تصوير حرفي لموضوع العمل وأحداثه وتتوقف جودة أي عمل فني على مدى المطابقة الحرفية لهذا الواقع، حيث كرس قدر كبير من أعمال التصوير في عصر النهضة المتقدم للتغلب على مشكلات المنظور. تلاه القرن التاسع عشر عندما كانت هذه المشكلات قد حلت. بذلت جهود كبيرة لحركة الانطباعيين من أجل التعبير بدقة عن تألق الضوء على السطوح الملونة. فقد عبر أحد رواد عصر النهضة البارزين الفنان (ليوناردو دافنشي) مشيداً بهذا الاتجاه حين وصف التصوير بأنه المحاكي الوحيد لكل الأعمال المرئية في الطبيعة ويقول إن أعظم مصور هو الأقرب شبهاً من الشيء المصور وأذكر هنا على سبيل الطرفة والاستشهاد مثالاً عن التطرف للمدرسة الفنية القديمة من قبل الجمهور على حساب الحديثة، احتجاج المصور ويسلر عام 1878 على رفض المتلقين أن ينظروا إلى عمله على أنه تكوين لوني كامن، معبراً : إن الغالبية العظمى من الجمهور الإنكليزي لا تستطيع ولا تريد أن تنظر إلى الصورة على أنها صورة، بمعزل عن أية حكاية يفترض أنها تحكيها. فالأعمال الفنية التي تصور أشخاصاً أو إحداثا تاريخية، لا يجذبنا إليها الشكل أو القالب الفني التي عولجت به، وإنما الأفكار أو المعلومات التي توحي بها أو تنقلها حيث تتوقف أهمية هذه الأعمال على الاهتمام الذي نبديه بالشخص أو الحادثة التي يصورها العمل بعيداً عن أي قيمة جمالية ، وكثيرة هي الأمثلة التي تعبر عن ثقافة النفور من كل ما هو جديد في مجال الفن أو غيره من المجالات الأخرى كنوع من المقاومة الذاتية يبديها كثير منا. فالنظريات الفنية الحديثة ما هي إلا رد فعل على هذا التطرف والرؤى التقليدية للفن عموما كما تعتبر تحد مباشر لاعتقادات الناس، حيث تحاول أن تبين وتبرهن فلسفياً أن ما يعده الناس فناً ليس في حقيقته كذلك إطلاقاً و القيمة الحقيقة لأي عمل فني تفوتهم لأن الفن الحقيقي منفصل تماماً ن الأفعال والموضوعات التي تتألف منها التجربة المعتادة وأنه علم وعالم قائم بذاته.
لقد أرسى المصورون والنحاتون في الربع الأخير من القرن التاسع عشر دعائم قوية للاستقلال الذاتي للفن وأكدوا على أن قيمه خاصة به ، فالقيم التشكيلية واللونية للتصوير يمكن أن تستغل على أكمل وجه عندما لا يكون العمل مضطراً إلى تصوير الواقع و كلما اعتمد الفنان على الأفكار المتداعية للموضوعات التي يصورها لا يكون عمله حراً، ولدينا وصف المؤرخ موريس رينال للوحة بيكاسو (صبايا أفينيون) التي تمت عام 1907 على أنها تعبر عن ثورة حقيقية في فن التصوير واستبصار الواقع حيث كانت الدراسات التمهيدية التي قام بها الفنان قبل إنجاز العمل نهائيا تلخص تطور هذه الثورة. ففي البداية كان المقصود بالعمل تمثيلياً بل كان له شيء من الدلالة الأخلاقية وفي الدراسات التالية أخذ البناء الشكلي للعمل يزداد أهمية حتى انتهى الأمر إلى حذف العنصر الأخلاقي لصالح تكوين يتألف من هيئة شكلية خالصة تزداد بالتدريج أثناء تطورها تجريداً وانتزاع للقوام الإنساني، وفي العمل النهائي انقسمت الوجوه والأجسام إلى تصميمات من الزوايا والمسطحات والألوان. كذلك في الفن اللاموضوعي مثل فن كاندينسكي وموندريان لا يوجد موضوع للتصوير إطلاقاً بالمعنى الصحيح للكلمة فاللوحة عبارة عن تشكيل من الخطوط الملونة والأقواس وغيرها، وهي لاتصور أشياءً أو أناساً وهذا لايعني التطرف في اتجاه على حساب الآخر وإنما الغاية هو التطرف لصالح العملية الإبداعية وكما يقول المؤرخ الفني ((فنتورى)): إن الهدف التقليدي للفن هو (المحاكاة) قد نبذ لصالح الإبداع (الخلق).
يقول ليجيه (leger): إن السؤال: (ماالذي يمثله هذا؟ سؤال لا معنى له). حيث إن العمل الفني الحديث عبارة عن جملة من الأشكال والعلاقات اللونية المدروسة تثير في المشاهد انفعالاً جمالياً. المهم في الأمر هو خلق تشكيل يمتاز في جوهره بأنه يجذب العين ويأسرها، من هنا يمكن التخلي عن أية علاقة غير ضرورية أو ملزمة بالواقع . إلا أن الفنون الحديثة تفتقر إلى تعاطف جماهيري على اعتبار أن الذهن البشري بطبيعته محافظ في ميدان الفن كما هو في معظم الميادين الأخرى ونظراً إلى أن الفن الحديث قد تمرد على الماضي بمثل هذا العمق لايمكن أن يكسب تعاطف أولئك الذين يقبلون عليه بنفس الطريقة التي كانوا ينظرون بها إلى فن العهود السابقة فلو بحثوا فيه عن تصوير لموضوعات طريفة أو بديعة أو بطولية فإن أملهم سيخيب، ولو لم يتصفوا بالصبر والتسامح الذي يتيح لهم اكتساب ألفة بالعمل الحداثوي والرفض هو النتيجة المنطقية والطبيعية لذلك. إن الدافع الأساسي من هذه الكتابات النقدية والفلسفية في المجال الفني هو الارتقاء بالذائقة الفنية والجمالية لدى الشعوب، ودفعها إلى التعامل مع أي عمل فني حداثوي بحياد موضوعي يساعد كل منا على خلق علاقة حسية مع هذا العمل والتحاور معه جمالياً من خلال التبادل الإنفعالي بين ما تصوره اللوحة من انفعال يرويه الإيقاع العام للون والشكل ورد الفعل الإنساني تجاهه.
فيصل أحمد النويران
فنان تشكيلي سوري