حينما تجد روح الإنسان مداها الحقيقي، تتلاشى عندها مظاهر الدنيا مهما كان بريقها، وتقصر عندها مسافات الزمن مهما كان طولها، وتصغر عندها الحياة مهما كانت عظمتها، لأن للروح مداها البعيد الفسيح الذي لا تحده الحدود، ولا تقف دونه السدود، ولا تستوعبه لوحة الوجود، وكيف تستوعب الحياة بما فيها روحاً تصعد إلى السماء، حين تتخلص من براثن الأرض، ويقف أمامها الفضاءُ حائراً منبهراً بآفاقها التي تستوعب الآفاق.
|
إحساس -لا يوصف- شعرت به وأنا أدخل صبيحة يوم السبت 16-1-1431هـ إلى فضاء الكعبة المشرفة الفسيح، وألج إلى عالمها المتألق، ونهر صفائها المتدفق، وأشذاء نقائها وطهرها التي تشرح الصدر.
|
الزمن في تلك اللحظة لم يكن في حسي هو الزمن الذي أعرف، ولم يكن حسابه هو الحساب الذي أفهم، لأن فضاء الكعبة الفسيح نقلني إلى بداية الحياة البشرية على وجه الأرض، وفتح أمام بصيرتي الحواجز التي تحول بينها وبين أبعاد السماء: أليست هذه الكعبة المشرفة هي البيت الذي تقابل به الأرض ذلك البيت المعمور في السماء؟ أليست هي مطاف ملايين البشر منذ أن قامت على وجه الأرض، كما أن البيت المعمور في السماء الدنيا هو مطاف بلايين الملائكة؟ أليست هذه الكعبة المشرفة بفضائها الفسيح، ومطافها البديع هي الساحة المضيئة من الأرض التي تختزن ذاكرتها آثار البشرية المؤمنة بربها منذ آدم عليه السلام إلى آخر روح إنسان مؤمنٍ يرحل عن هذه الحياة حينما يأذن الله لهذا الكون بالزوال؟
|
في جوف الكعبة تخلصت الروح على مدى عشر دقائق من معاني الأرض جميعها، ومن ملامح الحياة الدنيا بكاملها، وترقى بها إيمانها بالله، وتعلقها به سبحانه وتعالى إلى أعلى درجات الحب واليقين. وارتفعت بها ذكريات الأنبياء والمرسلين عن أوحال رغبات النفس وشهواتها، وسافر بها خيالها الفسيح إلى زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما يرفعان القواعد من البيت، وإلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبسط رداءه الطاهر بين المتخاصمين من قريش ليضعوا عليه الحجر الأسود، ثم ليرفعوا الرداء من أطرافه، حتى يحمل الحجر بيديه الطاهرتين ويضعه في مكانه من الركن.
|
في جوف الكعبة رأت الروح تلك الزاوية من جهة الركن اليماني تتألق بنور السجود والركوع، والتكبير والتسبيح، وتلاوة القرآن الكريم في ركعتين صلاهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المكان.
|
إحساس لا نظير له، وشعور لا يمكن وصفه، وسعادة غامرة يصعب على العقل البشري المجرد أن يستوعبها، كل ذلك عشته في عشر دقائق كتب الله سبحانه وتعالى لي فيها أن أكون من بين النفر الذين دخلوا إلى جوف الكعبة المشرفة في يوم غسلها، جمال يتحدث عن الجمال، وبهاء يتغنى به البهاء، فسبحان الذي أودع في بعض بقاع الأرض من أسراره، ما يجعل لها وهجاً روحياً يخبو عنده كل وهج في دنيا الناس، وما يجعل الإحساس بها أعمق من كل إحساس بما عداها في عالم البشر.
|
ماذا في جوف الكعبة؟ ليس هناك شيء مادي يثير الانتباه، أرضها رخام، وجدرانها المباركة نصفها السفلي رخام، ونصفها العلوي سُتر مُرخاة تُصنع كما تصنع كسوتها الخارجية، يتقابل فيها عمودان خشبيان من أجود أنواع الخشب هما العمودان اللذان وُضِعا في عهد عبدالله بن الزبير -رضي الله عنهما- وظلا كذلك زمناً طويلاً، حتى أمر الملك فهد -رحمه الله- بتغييرهما على هيئتهما الآن، وأمام الداخل صندوق من الخشب بين العمودين فيه أنواع من العطور، وفي أقصى اليمين باب صغير يفضي إلى درج الكعبة الصاعد إلى سطحها وللكعبة المشرفة سطحان، بينهما بعد لا يتجاوز المترين، السطح الأول يستخدم مستودعاً لبعض الأشياء الخاصة بالكعبة من كسوة وغيرها أحياناً، والسطح الثاني هو الذي يستقبل الفضاء بألقه الأخاذ.
|
هنالك قطعة رخام بيضاء من جهة الركن اليماني تدل على المكان الذي صلى فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما دخل الكعبة كما ثبت ذلك فيما روي عنه.
|
كعبة مشرفة، تكمن قيمتها في جمالها الروحي، وقدرها الديني الجليل، وكونها قبلة لكل مسلم يتجه إليها في صلاته من مشارق الأرض ومغاربها.
|
بقي أن نحيي الرئاسة العامة للحرم المكي والمسجد النبوي ممثلة في معالي رئيسها الشيخ صالح الحصين، وفي فضيلة نائبه الشيخ/ د. محمد ناصر الخزيم الذي يبذل من جهده ووقته لعمله ما يجعله جديراً بأن ندعو له بالعون والسداد. وكذلك نحيي إمارة مكة، والجهات الأمنية، وسدنة الكعبة (آل الشيبي) على ما قدموه من جهود مباركة في استقبال من كتب الله لهم دخول الكعبة في هذه المناسبة السنوية، مناسبة غسل الكعبة في منتصف شهر محرم من كل عام.
|
|
دعوني بخدي أمسح الأرض إنني |
أرى مسحها بالخد مجداً يؤثَّل |
|