مع ازدياد أعداد السكان في العالم ومع تطور قدرات الإنسان التكنولوجية، أصبحت قدرة الإنسان على التصرف بالموارد الطبيعية المتوفرة في العالم كبيرة جداً. ولقد هددت الممارسات غير المسؤولة للبعض، والمتمثلة في الاستغلال الجائر للموارد المتوفرة وفي الضغط الكبير على المصادر والبيئات الطبيعية، الموازين الدقيقة في العالم عرّضت مستقبل الحياة على الأرض للخطر. ومن هنا كانت الدعوة التي أطلقت في الأمم المتحدة إلى ضرورة الالتزام بمفهوم الاستدامة الذي يدعو إلى حفظ حقوق الأجيال المستقبلية من خلال التعامل الحساس مع الموارد المتوفرة.
ويعدُّ قطاع العمران من أهم القطاعات التي يجب عليها الالتزام بمفهوم الاستدامة. فالمدن والتجمعات العمرانية وما تحتويه من مكونات ونظم متنوعة، كالأبنية والمنشآت والخدمات والطرقات وغيرها، تستهلك الكثير من المصادر من جهة وتنتج ملوثات ضارة بأشكال متعددة من جهة أخرى. ومن هنا فإن تطبيق مفاهيم الاستدامة في العمران سيسهم قطعاً في المحافظة على المصادر وعلى بيئة العالم.
ومن هذا المنطلق، نفتخر بالمبادرة الموفقة لكلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود لإقامة المؤتمر العالمي الأول للاستدامة والعمران الذي سيعقد في رحاب الجامعة في خلال هذا الأسبوع. وتدل مشاركة المئات من الأكاديميين والمختصين، الذين تفاعلوا مع مبادرة الكلية وأتوا من العديد من بلدان العالم، في المؤتمر على أهمية وحساسية موضوع الاستدامة وعلى ضرورة أن يتصدى العاملون في مجال العمران لهذه المسألة الحيوية. فبالنظر إلى أهمية المسألة، يتوجب على المعماريين والمخططين وغيرهم من المختصين في مجال العمران أخذ التدابير اللازمة لدعم مفهوم الاستدامة وتعزيز الممارسات المستدامة في مجالات التخطيط والتصميم والبناء. ويستطيع المخطط العمراني، الذي سأركز على دوره هنا، فعل الكثير لدعم مفهوم الاستدامة وتحقيق مقاصدها وغاياتها. فبحكم اختصاصه ودوره في وضع وصياغة المخططات العمرانية وتعامله مع سياسات وضوابط التطوير العمراني، يمكن أن يساعد المخطط العمراني على إنتاج بيئات عمرانية مستدامة تحقق طموحات الإنسان المعاصر من غير أن يتم هضم حقوق الأجيال القادمة. فعلى سبيل المثال، ومن خلال اتباعه الأساليب المستدامة في تعامله مع موضوع تخطيط استعمالات الأراضي وضوابط استخدامها، يستطيع المخطط العمراني أن ينتج بيئة تتمتع بإيجابيات عديدة بيئية، اقتصادية واجتماعية. يؤدي تشجيع الاستعمالات المختلطة، الكثافة المتوسطة وقطع الأراضي ذات المساحات الصغيرة والمتوسطة إلى منافع اقتصادية مثل تقليل تكاليف إنشاء وصيانة البنية التحتية، تقليل تكلفة التنقل والتوفير في تكلفة إنشاء المرافق الخدمية، حيث ستقل الحاجة إلى أعداد أكبر منها كما هو الحال مع التطويرات ذات الاستعمال الواحد والكثافة المنخفضة. ومن الناحية البيئية، ستنقص الحاجة إلى مساحات كبيرة من الأراضي وهذا يمثل منفعة بيئية بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي فيه، وستزيد إمكانية الاعتماد على المشي للتنقل بين الوجهات المختلفة مما يعمل على تخفيض كميات الانبعاثات الناتجة عن السيارات ومما يوفر في الأوقات المهدرة على الطرقات. ومن الناحية الاجتماعية، تؤدي الكثافات المتوسطة إلى بروز الحاجة إلى مرافق اجتماعية كالحدائق والنوادي مما يعمل على نشوء العلاقات وإلى زيادة الإحساس بالمجتمع community والارتباط بين الأفراد.كما يستطيع المخطط العمراني من خلال تعامله مع مسألة النقل، كجانب من جوانب عمله ومسؤولياته، أن يساعد على تشكيل الظروف اللازمة لقيام أنماط جديدة من النقل التي تقلل من الاعتماد على السيارة كوسيلة النقل الرئيسة في حياتنا. فالنقل العام الجيد والمقبول اجتماعياً يوفر منافع عديدة اقتصادية وبيئية واجتماعية. يساعد النقل العام على تخفيض تكلفة التنقل بالنسبة للفرد كما يؤدي إلى تراجع الحاجة إلى السائقين مما يعزز من القدرات الاقتصادية للعائلات المعتمدة عليهم. وتبرز أهمية النقل العام من خلال الحد من كميات الملوثات الناتجة عن السيارات مما يسهم في حماية البيئة والتقليل من التأثيرات المضرة بها. ومن الناحية الاجتماعية، فإن النقل العام يخفض من عدد حوادث الطرق والأوقات المهدرة على الطرق وهذه تمثل منافع اجتماعية مهمة في ضوء ما نشهده من مشكلات كبيرة في هذا الإطار.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للمخطط العمراني المساهمة في موضوع الاستدامة من خلال إيجاد المعالجات الناجحة للمناطق المتدهورة وتلك غير المستغلة جيدا. فمن خلال التجديد العمراني لهذه المناطق، يستطيع المخطط العمراني إيجاد فرص لاستيعاب الطلب على الأراضي وتوفير مساحات يمكن الاستفادة منها للسكن والعمل وغيرها. يتيح التجديد العمراني إعادة استخدام تلك المناطق المتدهورة ويستبعد، بالتالي، اللجوء إلى البناء وتطوير أراضٍ جديدة وترك هذا المورد لأغراض إنتاجية أخرى حالياً أو في المستقبل. ومن خلال عمله في جوانب التصميم العمراني التي تدخل في اختصاص المخطط العمراني أيضاً، يمكن للمخطط العمراني تحديد ارتفاعات المباني، زيادة العناصر الخضراء في الشوارع، ربط الأمكنة وتسهيل الوصول إلى الخدمات، توفير مسارات للمشاة واستخدام مواد البناء والألوان المناسبة مما يؤدي إلى منافع بيئية واقتصادية واجتماعية مهمة. تبرز الموضوعات السابقة، وغيرها لم يتسع المجال لذكرها، الجوانب المتعددة التي يمكن للمخطط العمراني من خلالها المساهمة في تفعيل مفهوم الاستدامة وفي العمل على تحقيق أهدافه.ومن هنا تبدو أهمية مؤتمر كلية العمارة والتخطيط للإضاءة على جميع الزوايا التي يستطيع عبرها المعماري والمخطط العمراني وغيرهم من المختصين في العمران دفع الجهود قدماً لإنتاج بيئات عمرانية مستدامة. نهنئ ونشكر الكلية والجامعة على عقد هذا المؤتمر ونتطلع إلى تطبيق التوصيات التي ستنتج عن هذا المؤتمر لما فيه خير وصالح الجميع.