في لحظة من لحظات التأمل، يجد المرء نفسه في مواجهة جملة من الحقائق والبراهين التي تدل على سمات وخصائص النفس البشرية وما ينتج عن تفاعلاتها مع الكون والحياة فيه من نواتج معمِّرة أو مدمِّرة. لقد تأملت ذات مساء، فكرةً جمعتُ فيها بين ال (أنا) لآحادنا، و(الكتلة) لمجموعنا. وقادني ذاك التأمل والتدبر إلى مؤشرات عجيبة، لتاريخنا منها نصيب وافر.
إن لل (أنا) عندنا قصص وروايات، ولها مع تاريخنا القريب صولات وجولات. ذلك أن ال (أنا) عندما تتضخم حتى تعلو الصالح المجتمعي، تكون مهلكة للآخرين ثم لذاتها. ولو أننا أعملنا الذاكرة في كثير من الكوارث التي مرت بنا لأدركنا أن وراء كل كارثة غياب حقيقي أو (صناعي) ل (الشعور) والوعي العام ل (أفراد) منا، كنا في يوم من أيام العرب نمنحهم ثقة مطلقة في أنهم لا يقولون (لجمعنا) إلا حقاً، ولا يفعلون (بكتلتنا) إلا رشداً. لكن عدداً من تفاعلات (آحادنا) مع (كلنا)، جاء وبالاً علينا. فلنرجع برهة بالذاكرة، لنتأمل منعطفات مهمة في تاريخنا، محاولين تطبيق قاعدة (الأنا) و(الكتلة)، هنا.
فقد تكاثر المرتدون عن دينهم في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه، لأن من آحاد الصحابة من قال وفعل بمقتضى الردة، دون أن يعود للجماعة. وخرج الخوارج على الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لأن منهم من بذر بذرة (الأنا) وشق عصا الطاعة. وذهبت (إمبراطوريات) المسلمين من تحت الأمويين والعباسيين والعثمانيين، لأن منهم، وممن هم معهم، من تضخمت لديه ال (أنا) ففعل الأفاعيل، وأراد حمل الناس عليها. وذهب (العراق) إلى مستقبل مجهول، وذهب (صدام حسين) إلى قدر الله، لأن ال (أنا) لم تكن أكثر رسوخاً وشموخاً في العصر الحديث منها عنده. وذهب (جورج بوش الابن) من المسرح السياسي الدولي لذات العلة، مع فارق الأداة، بعد أن فعل بالأنموذج الأمريكي ما لم يفعله أسلافه. وذهب مع الاثنين (أسامة بن لادن). ولو تأملنا جيداً ما جنته (أنا) كل هؤلاء بنا، وبمجموعنا الدولي والقُطري والوطني، عرفنا حقيقة (الشعور) عندما غاب عند هؤلاء، ودفعتهم أهواؤهم أن ينالوا من (كتلتنا) لصالح (ذاتهم). فذهبت في الطريق، الكتل والذوات. واليوم القريب، خوارج (جدد) يؤذوننا. وفكرٌ دخيلٌ يتشدق بتفويضنا، وتسليمنا، وانقياديتنا، لينال منّا باسم (مجموعنا)، مخفياً نزعته (الذاتية) و(أناه) العالية جداً. بل وفي أحدث كوارثنا (كارثة عروسنا الغربية) (أم الرخا والشدة)، (جدة).
تلك المدينة الحالمة التي ما كان ينالها ما نالها، لولا أقدار الله تعالى، ثم الغياب المشين (للشعور) عند عدد ممن ظننا في يوم من أيام العرب أنهم يحسنون صنعاً، فطغت ال (أنا) عندهم على كل مركباتنا ومصالحنا المجتمعية. والمؤلم جداً، أننا مرشحون لمزيد من الكوارث والآلام حتى ندرك أن تنمية (الشعور) و(الإحساس)، إرادةً، أو قهراً، ضرورةٌ من ضرورات بقائنا. ول (الشعور) علاقة مصدرية ب (الضمير) أو ما يسمي (الوجدان). وهو، كما تعرفه موسوعة (ويكيبيديا)، قدرة الإنسان على التمييز فيما إذا كان عمل ما خطأ أم صواباً. أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل. وهو الذي يؤدي إلى الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة أو النزاهة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية.
وفي حديث وابصة ابن معبد الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن البِر والإثم قال له: «يا وابصة، استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك المفتون».
في هذا المقال، إذا، رسالة محبة إلى سمو الأمير خالد الفيصل -وفقه الله- وهو رجل العلم، والفكر، والسياسة، والإمارة، ومحط ثقة القيادة الرشيدة في واحد من أكثر الملفات الوطنية أهمية تاريخية، أن يأمر معاونيه في اللجنة الوطنية الكبرى التي تنظر في كارثة جدة، أن يعنوا بدراسات (الشعور) و(الضمير) و(الأخلاق)، كيف نبنيها ونطورها ونحميها في بلادنا، ليس في (جدة) بل في كل البلاد (فكل بلادنا (جدة). وليس في كارثة السيول، بل في كل كوارثنا الماضية والحاضرة، حتى نحمي (كتلتنا) من تجار ال (أنا) الذين أنهكونا بين الأمم، ذوي ال (أنا) المادية، وال (أنا) الفكرية، وال (أنا) الثقافية. وال (أنا) الاجتماعية. ليكون لتنميتنا ولفكرنا ولثقافتنا ولمجموعنا هوية مجيدة كما هي حقيقتنا، دون أن نفوّض أحداً من (آحادنا) ليعبث ب (جميعنا) من جديد.
alhumoodmail@yahoo.com