Al Jazirah NewsPaper Monday  04/01/2010 G Issue 13612
الأثنين 18 محرم 1431   العدد  13612
 

في فمي ماء كثير
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

عنوان هذه المقالة جزء من بيت ورد في قصيدة للشاعر المشهور نزار قباني. وهو شاعر ألهم تطويع الكلمة بشكل يندر مثاله. ومع تلك الصفة التي وهب إياها فإن شعره لم يخل من هفوات...

... تبرهن على أن لكل جواد كبوة. ووجود هفوات عند شعراء عمالقة أمر يعرفه من هم أهل للحكم على الشعر جيده وضعيفه.

وقصيدة نزار المشار إليها ألقيت في مهرجان المربد يوم كان العراق عراقاً لم يحلَّ به ما حلَّ من كوارث ونكبات. وعنوان تلك القصيدة «إفادة من محكمة الشعر». وتعد من أروع ما كتبه ذلك الشاعر؛ بل تعد من عيون الشعر الحديث والمعاصر. ومطلعها:

مرحباً يا عراق...

جئتك أغنيك

شيء من الغناء بكاءُ

ترى لو كان ذلك الشاعر الآن حياً، ورأى ما حلَّ بعراق أمته، هل سيقول:

«شيء من الغناء بكاءُ؟ أبقي شيء للغناء لا للبكاء؟

ومن تلك القصيدة:

في فمي يا عراق ماء كثير

كيف يشكو من كان في فيه ماء؟

أجل، ما أكثر الأفواه الممتلئة ماء في جموع أمتنا المغلوبة على أمرها! لقد رأى الجميع كيف بدأ العام، الذي انتهى قبل أيام قليلة، وكيف انتهى. رأى الجميع كيف بدأ ذلك العام باستمرار عدوان صهيوني بشع على غزة؛ وهو العدوان الذي باركه وأيَّده تأييداً قوياً واضحاً متصهينون في الغرب عامة وفي أمريكا خاصة. ورأى الجميع، أيضاً، كيف كانت مواقف بعض الزعماء من أمتنا تجاه ذلك العدوان الهمجي البشع بين غير مكترث بما كان يُرتكب من جرائم صهيونية فظيعة وفرح في سرِّه - وربما متواطئ من خلف الستار مع ذلك العدوان ومحرض عليه - أملاً في أن تكون نتيجته إخماد أيّ حركة مقاومة للاحتلال الصهيوني ليبقى مرتاحاً في كرسي السلطة ومهيمناً عليه. ولعلَّ مما يدل على ذلك أن هؤلاء المتواطئين، أو المحرضين، لم تكن لديهم الشجاعة ليردوا على أقوال قادة الصهاينة، الذين أشاروا إلى ذلك التواطؤ أو التحريض بوسائل متعددة.

أما شعوب أمتنا فقد اتضح جلياً أن أصوات الذين ما زالت تدب فيهم بقية من حياة وحياء، لم تكن إلا أصوتاً غير مسموعة أو مؤثرة. ذلك أنها كانت بمثابة أصوات في مقبرة أُشرب من هم فيها كؤوس الذل والمهانة حتى الثمالة. ومرت أيام العام الثقيلة وطأة ولسان حال كل رجل وامرأة من هذه الأمة يقول:

كل يوم يمر يزداد ذلِّي

في فؤادي تمكُّناً ورسوخا

وإذا حرَّك الزعيم عصاه

ركع الكل للزعيم رضوخا

رحم الله موقفاً كنت فيه

رافع الرأس عزة وشموخا

وقرب نهاية العام المنصرم، الثقيل وطأة، المليء ذلاً وإذلالاً، جاء رد الغرب على دعوات أصحاب النوايا الطيبة من المسلمين -كما توقع كاتب هذه السطور وأمثاله -صريحاً واضحاً؛ وهو رفض تلك الدعوات بطرق مختلفة.

ومن هذه الطرق ما حدث من تصويت في سويسرا - بلد البنوك المودع في خزائنها كثير من الأموال العربية السرِّية- حيث ظهر فيه أن أغلبية شعب تلك البلاد تعارض بناء منائر للمساجد فيها. وأظهر، أيضاً، استفتاء للرأي العام الفرنسي أن الكثيرين من الفرنسيين يعارضون بناء مساجد في بلادهم. ومن المرجح أنه لو حدث استفتاء في بلدان أوروبية غير سويسرا وفرنسا لكانت النتيجة مشابهة لما حدث في هذين البلدين. ذلك أن الأوروبيين يظلون غير معترفين بنبي الإسلام وإن تظاهروا بأنهم مع حرية الأديان.

ولم يقف الأمر عند ما سبق ذكره. وحيِّز هذه المقالة لا يسمح بالإشارة إلى أمثلة عديدة تبين تجمع أعداء المسلمين ضد أمتنا المسلمة. ويكفي دليلاً على ذلك ما هو حادث في أفغانستان من جنود أولئك الأعداء مرتكبين يوماً بعد آخر جرائم بشعة ضد الأبرياء. ولهذا تكفي الإشارة باختصار إلى ما حدث في العام الذي انتهى من ظهور عداء الزعامات الغربية؛ وبخاصة بريطانيا، تجاه قضية غزة بالذات. فقد وقف زعماء تلك الدولة ضد محكمة بريطانية أصدرت أمراً، أو حكماً، باعتقال مجرمة الحرب الصهيونية، وزيرة خارجية الكيان الصهيوني السابقة، إن هي أتت إلى بريطانيا، وصرحوا بأن تلك المجرمة مرحب بها دائماً في بلادهم. بل إن كبيرهم، خليفة بلير، الذي عرف العالم كله -بما فيهم شعبه- كذبه الذي استخدم من بين الذرائع للعدوان على العراق واحتلاله، صرح بأن الكيان الصهيوني لو أعاد الهجوم على غزة لأيده كل التأييد. على أن هذا الموقف غير مستغرب من قادة دولة هي التي مهدت الطريق بوسائل متعددة لإنشاء ذلك الكيان العنصري على أرض فلسطين.

وما للمرء؛ وهو يشاهد ما يحدث من أولئك الزعماء وما يتخذ من مواقف تجاه الحديث عنه بصراحة، إلا أن يعيد قول بيت الشاعر نزار قباني المشار إليه سابقاً وإن بتغيير كلمة فيه قائلاً:

في فمي يا صحاب ماء كثير

كيف يشكو من كان في فيه ماء؟


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد