حسناً فعل مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني في اختيار موضوع الخطاب الثقافي السعودي للقاء الفكري الأخير.. وكنت قد جهزت مشاركتي بورقة تناقش ما أرى أنه أهم سمتين لخطابنا الثقافي من بين عدة سمات: السجالية والارتجال..
ويبدو أنني لم أكن بحاجة إلى توضيح كيف أن خطابنا الثقافي يتصف بهاتين السمتين، إذ إننا مارسناهما بكل اقتدار عبر سجالنا في ترصد ثغرات خطاب تيار أحدنا للآخر، وعبر ارتجالنا لأننا لم نُمنح سوى ثلاثة دقائق فقط للمشاركة وكأننا في ميدان مبارزة بلاغية!
الساحة الثقافية السعودية تشهد منذ بضع سنين حراكا نشطاً مقارنة بما كانت عليه قبل ذلك حين كان الخطاب الثقافي مرتكزا على الأدب، وكان فكر ما أطلق عليه تيار الصحوة يرمي بظلاله على المشهد الثقافي ويكبله بقيوده. هذا الحراك النشط نتج عن ارتفاع سقف حرية التعبير، ومن ثم تحرر الخطاب الثقافي من قيود الأحادية إلى رحابة التنوع، ولكن ذلك صاحبه بعض المعوقات، التي لا يمكن طرحها جميعاً هنا، ولكن سأتناول السمتين الاثنتين اللتين أشرت إليهما.
الأولى شيوع الروح السجالية على كثير من إنتاجات هذا الخطاب. فمع بداية ارتفاع سقف حرية التعبير اصطدم الخطاب الجديد بممانعة الخطاب السابق، وظهرت روح سجالية بينهما. وأصبح على سبيل المثال التياران الأرفع صوتاً: السلفي والليبرالي يسجلان النقاط على بعضهما.. كلٌّ يركز جُلَّ جهده على رصد مثالب الطرف الآخر أكثر من أن يركز على إقامة بنائه الفكري الخاص به وترتيب بنائه من الداخل، وعندما يتحول إلى الداخل يتمترس بحالة دفاعية إنكارية لكل عيب داخلي.
النقد المتبادل (التناقد) بحد ذاته عملية إيجابية، ولكن ليس على حساب البناء الداخلي والنقد الذاتي. فالنقد الذاتي يكاد ينعدم بسبب الروح السجالية التي جعلت من العمل النقدي عملية نسف لكامل الخطاب وليس تهذيبه أو تحليله وكشف المحاسن والعيوب فيه. أي تحول نقد الخطاب إلى عملية يقصد منها إقصاء الخطاب برمته. هنا يُنظر إلى النقد الذاتي على أنه اعتراف بالفشل الكامل وإلغاء الذات وليس محاولة للتجديد والتطوير الداخلي.. فمن يجرؤ على النقد الذاتي فهو يحاول الانتحار معنوياً! إذ عندما يتجرأ كاتب على نقد جزء من خطاب تياره تصوب نحوه السهام بتهم الخيانة من قبل الطرف الذي ينتمي إليه فيما تعتبره الأطراف الأخرى شاهد شهد على أهله وفضحهم!
هذه السجالية هي امتداد سلبي لما ألفناه من نمط التثاقف السابق، أي الرغبة في الهيمنة على المشهد الثقافي، ومن ثم تشكيل خطاب موحد، مما يعني بالضرورة إقصاء الأطراف الأخرى؛ بينما الحالة الإيجابية تتأتى من التشكل الطبيعي (وليس التشكيل) الذي يتضمن التعددية والتنوع وما يصاحبهما من ثراء ثقافي.
السمة الثانية هي شيوع الارتجالية.. أقصد بذلك سيطرة الأعمال الثقافية السريعة المرتجلة والعشوائية التي تركز جل اهتمامها على الحصول على أكبر قدر ممكن من الجماهيرية بغض النظر عن جودة المنتج. وذلك في تقديري بسبب تزامن بداية تشكل الخطاب الثقافي السعودي الجديد مع ثورة الاتصالات العالمية خاصة الإنترنت والفضائيات التي أطلقت الخطاب الشعبوي من عنانه. فقنوات الإعلام تبحث عن معلن، والشركات تعلن في المواقع الأكثر جماهيرية، لتسود في نهاية المطاف الثقافة الشعبوية التجارية على كافة أنواع الثقافة.
وعلى منطق: «صادف قلباً خالياً فتمكنا»، فإن خطابنا الجديد في بداية انطلاقته صادف عولمة الثقافة الشعبوية التجارية وتأثر بها بشدة، وأصبح مقياس نجاح الخطاب هو جماهيريته التي تعتمد على قدرة الخطاب في التضخيم والإثارة والبلاغة، ولم تعد هناك معايير نقدية تقيِّم الأعمال سوى شعبيتها.
لقد بشَّر ديفيد بروك صاحب الكتاب الأكثر مبيعاً عام2000، العالم بسيادة الثقافة الشعبوية التجارية لأنها تمثل النشاط الأساسي للحياة العصرية. وعلى نفس المنوال، فالمفكر مالكوم جلادول حصر الثقافة الجديدة تقريباً في المسألة التسويقية.. مؤكداًً أننا في كل لحظة وفي كافة أنشطتنا الحياتية نمارس عملية تسويق بضاعة، وأفضل الناس نجاحاً هم الذين يعرفون كيف يُنتجون العاطفة (البضاعة) الأكثر تأثيرا وإثارة.. الأكثر إرضاء للجماهير (الزبائن).. فالمهم هو جذب الجمهور وليس المصداقية أو الجدارة.. واقترح جلادول ثلاثة عوامل تسويقية لجذب الجمهور: عامل الشكل المؤثر.. أي شيء يحبه المستهلكون؛ ثم عامل اللصق بالذاكرة.. أي شيء يلتصق بذاكرة المستهلك؛ وأخيراً عامل قوة السياق.. أي شيء يناسب السياق المكاني والزماني والملابسات المحيطة بمشاعر المستهلكين.
عندما نتطرق للثقافة الشعبوية في الغرب فنحن نتحدث عن مجتمعات جذورها الثقافية كتابية تحريرية بينما في مجتمعاتنا تمتد جذور الثقافة الشفوية السماعية بعمق، مما ساعد على نماء الثقافة الارتجالية.. فكما أن خطاب المتحدث أو الحكواتي أو الشاعر يتأسس وفقاً للمعايير الشفهية كالمهارة اللفظية التي بطبيعتها الارتجالية لا تُعير الضبط التوثيقي والمعلوماتي والتحليلي أهمية كبيرة، فكذلك يمكن للكاتب -في ظل هذه الثقافة- أن يكتفي بالمهارة البلاغية مستخدماً تحليلاً ارتجالياً (شفوياً) ومستنداً على معلومات سماعية، وكأنه يحكي كلاماً مطلق العنان لا يجشم نفسه عناء العمل الكتابي الموضوعي كالبحث عن المعلومات من مصادرها الأصلية وتحليلها بجدية وضبط منهجي، أو عناء العمل الأدبي والفني وما يتطلبه من تقنيات ومهارات كتابية. صحيح أن المهارة البلاغية ضرورية في الكتابة ولكن الاكتفاء بها هو الخلل. وكذلك فإن الارتجالية هي أسلوب لا غبار عليه من ضمن أساليب الكتابة لكن الاعتماد عليها تسطيح وتشويه.
ها نحن نرى في هذه الأيام كيف أن أقوى المقالات التي كتبت عن كارثة سيول جدة كانت تلك التي اعتمدت على البلاغة والمهارة اللفظية وحدَّة العاطفة أكثر من تلك التي اعتمدت على تقديم الإحصاءات وكشف المعلومات المحجوبة أو تلك التي ركزت على تحليل جاد لظاهرة الفساد والطرق العملية لمواجهته.. والعاطفة هنا مهمة في التطرق لمأساة إنسانية، لكن الخلل في التركيز عليها أكثر من غيرها.
ولقد شاهدنا كيف تفرخت مئات الروايات السعودية فجأة، واعتمد نجاح ظهورها على جذب الجماهير عبر الإثارة الفضائحية بغض النظر عن المستوى الفني، فقليل منها يستحق مسمى رواية بينما الأغلبية متواضعة فنياً وبالكاد تستحق مسمى حكاية وليس رواية.
وللموضوع بقية..
alhebib@yahoo.com