Al Jazirah NewsPaper Thursday  31/12/2009 G Issue 13608
الخميس 14 محرم 1431   العدد  13608
من الأديب مالك حداد... إلى الأمير خالد الفيصل اللغة العربية.. ذات شجون
د. عبدالله بن ثاني

 

(قبل الاستقلال كنت بحاجة إلى أي لغة لكي أدافع عن قضية بلدي، أما الآن، فإن كل كلمة أخطها يجب أن تكون عربية).كانت هذه العبارة الخالدة للأديب الجزائري طيب الذكر مالك حداد الذي كان يكتب بالفرنسية.

( وبعد استقلال الجزائر عام 1962 توقف عن الكتابة حتى نهاية عمره عام 1974م... وعندما زار هذا الأديب الجزائري العالمي دمشق في أوائل الستينيات وعقد ندوة أدبية اعتذر في بدايتها بالقول (في حنجرتي غصة استعمارية زرعها الفرنسيون، فاعذروني إن لم أستطع الحديث إليكم كما أريد، بلغتي ولغتكم العربية، لأن الفرنسيين فرضوا عليّ الجهل الكامل بهذه اللغة).

فهل يمكن لعاقل أن يتصور حجم الاعتذار الأدبي وكارثة الاستعمار التي لا تخفف من لوعتها كل ديباجات الاعتذار السياسي من قِبَلِ حكومة فرنسا عن الفترة الديجوليه لاحتلال أرض الجزائر وشعبها العريق عن تلك الحقب المظلمة ومن قبل حكومة إيطاليا لاحتلال أرض ليبيا وعمرها المختار الذي قدم من التضحيات ماهو أكثر من سبعة مليارات (ثمن الاعتذار) وهي لاتساوي شسع نعل سيدي عمر المختار، في حين أن هذه الحكومات تقدس هويتها ولغتها وديجول نفسه حينما عثر على مصطلح ألماني في ثنايا اللغة الفرنسية صرخ في حكومته إلى أن فرنسا لم تحرر بعد وظل علماؤه يبحثون عن ترجمة فرنسية لهذا المصطلح الدخيل من أجل تحرير فرنسا الحقيقي، بل إن الرئيس الفرنسي شيراك درس في الولايات المتحدة، وهو يجيد اللغة الانجليزية، ولكنه توقف عن استخدام هذه اللغة منذ انتهاء دراسته وعودته إلى فرنسا وأعطى درسا وطنيا في أحد اجتماعات القمة الأوروبية، حينما ألقى رجل الأعمال الفرنسي ايرنست انطوان سيلييه كلمة باسم رجال الأعمال الأوروبيين، باللغة الانجليزية، لغة شكسبير، فقاطعه قائلاً: (لماذا لا تلق كلمتك بلغتك الأم)؟ فرد إيرنست (سألقي الكلمة باللغة الانجليزية، لأنها لغة البزنس)، وغضب شيراك وغادر القاعة مع وزير ماليته تيري بريتون ووزير خارجيته فيليب دوست بلازي. وعندما سأله الصحافيون عن سبب الغضب والانسحاب قال: (لقد صدمت لرؤية فرنسي يعبر عن نفسه بغير اللغة الفرنسية، وانسحبت لكيلا أستمع إلى كلمة شخص لا يحترم لغته).

ولم يغادر شيراك مقعده، ولم ينسحب من الجلسة عندما ألقى جان كلود تريشيه، حاكم البنك المركزي الأوروبي، كلمته، لأنه يتحدث بالفرنسية، رغم أن الحوار في اجتماعات البنك باللغة الانجليزية، وعندما التقى الرئيس بوش الابن قبل نهاية ولايته أصر على التحدث بالفرنسية معه، وهو يعلم بواطن اللغة الإنجليزية وكان يرافق الزعيمين، حتى على مائدة العشاء، مترجمان، الأول أمريكي ينقل كلام بوش إلى الفرنسية، والثاني فرنسي ينقل كلام شيراك إلى الانجليزية.

ولم يقتصر هذا الاعتزاز على القادة الفرنسيين بل تجاوزهم إلى آخرين من أمثال بن غوريون الإسرائيلي الذي رفض مصافحة اسحاق دويتشر وهو يهودي روسي، لأنه كتب عن الهوية اليهودية، وانتهى إلى إجابات أدت إلى أن يرفض بن غوريون مصافحته عندما التقاه، وعاتبه أيضاً لأنه لا يكتب باللغة اليديشية، وهي لغة شبه منقرضة تصلح للطقوس فقط، وبالرغم من ذلك نال كاتب صهيوني جائزة نوبل لأنه يكتب بهذه اللغة بدعم سياسي.

إن الاعتزاز باللغة والهوية يعطي بعدا للإنسانية في أي نفس، والتمسك بالتراث والايديولوجيا يمنح المجتمع مزية، وكل تجارب الشعوب الحقيقية التي خلدها التاريخ تؤكد أنها لم تتنازل عن طريقتها ولغتها وتراثها وقد قاومت كل هجوم وحاجة في سبيل الحفاظ على مقدساتها وثوابتها، ولذلك أصرت أوروبا على ترجمة العلوم التطبيقية كالفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات من جامعات الأندلس الإسلامية دون ترجمة للعلوم الإنسانية وما تتضمنه من شعر وأدب وسلوك ؛ لأن الدخول للحضارة والتمدن بطريقة غير ممنهجة يفقد التوازن والمسار، فنجحت أوروبا وقامت حضارتها على طريقتها وفشلنا لأننا ترجمنا كل شيء أوروبي وأمريكي حتى شملت الترجمة العادات والتقاليد والشعر والأدب والسلوك واللغة فمسخت هويتنا بسهولة واختلفت ألسنتنا إعجابا بالآخر حتى رأينا بأم أعيننا من يسعى إلى سلخ مجتمعاتنا بطريقة مقرفة ومقززة فغيروا طريقتنا في الأكل والشرب والسكن والحديث بحجة التحضر والتمدن بشكل غير موضوعي في صورة تؤكد ماكان يعنيه الأحنف بن قيس في قوله: (لا تزال العرب عرباً ما لبست العمائم وتقلدت السيوف ولم تعدد الحلم ذلاً ولا التواهب فيما بينها ضعة (كان قصده أكبر من الزي واللباس وقعدة القرفصاء واشتمال الصماء وأكل قصعة من ثريد وشرب السويق ملتوتا، كان يشير إلى الهوية التي تميز بها العربي ومافيها من قيمة وفضيلة ولذلك ختم عبارته بتلك الخاتمة، إن العروبة منتج إنساني وسلوك حضاري لايعني الانتساب إلى عدنان أو قحطان فقط، ولايختصر في صورة طائر جارح على يد وضعت بعناية في محاذاة الصدر، ولايقتصر ذلك المنتج الإنساني على مطاردة وعل في جبال شاهقة أو تتبع طائر مهاجر، ولايرتبط بقصيدة شعبية، تكرس لثقافة الدم.

والعنصرية، ولاتدل عليه ناقة بلغت الملايين، أوخيمة أو بيت شعر، وهو لايقف عند الفنجان الأول ولايتأثر بصدر المجلس... العروبة منهج يمشي على خطاه الإنسان ليتعلم كل يوم معنى جديدا للحياة يمثل وجودا حضاريا وجغرافيا ورسالة ذات خصائص لاتؤمن بالشعارات المزيفة والقيم المضروبة والمتاهات المستوردة والسلوكيات المريبة... إنها تتجاوز هذه الجينات إلى الإيمان بالثقافة والسلوك ومنظومات القيم الحقيقية التي عدها العرب أساسا للتقويم في درجات السلم الاجتماعي الذي لا يقبل غير الاعتداد بالنفس والطريقة كما هو عند ذلك الأعرابي حينما سُئِل: ماذا تفعل في البادية، إذا اشتد القيظ، وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك. يمشي أحدنا ميلاً، فيرَفضُّ عرقاً. ثم ينصب عصاه، ويلقي عليه رداءه. ثم يجلس في فيئه (ظله) يكتال الريح، فكأنه في إيوان كسرى.... في صورة تؤكد على أن الانبهار غير المدروس يولد خللا، يفقد معه الإنسان توازنه ومساره الصحيح وهذا ما أدركه الأحنف بكل صدق وموضوعية وأدركه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد انتهاء الحج، كان الجميع يتابعون بدقة تفاصيل الأرقام وتطبيق النظام وعدد المخالفات..وكنت أتابع هويته العربية وتفاصيله الفيصلية، ولم يخف على من كانوا حولي في تلك الجلسة انتشائي حينما طلب من الأخت المصرية أن تسأل وتتحدث بالعربية، فاستجابت لرغبته ولم يقتصر على هذا بل أجاب بلغة عربية سليمة على من سألت بغير العربية، كان يعطي درساً في الهوية، لم تعكره أحداث الفيضانات في جدة... ولم يحس فيه الفتى العربي بأنه غريب الوجه واليد واللسان كما قال أبو الطيب في شعب بوان في بلاد فارس.....

إن الحديث عن اللغة (القوة الناعمة) ذو شجون كما قالوا وبخاصة في ظل المعوقات التي شكلت حاجزاً حصيناً أمامها في نفوس أبنائها فهما وحديثا وتصويرا وهوية واعتزازاً حتى استعصت على الفهم والإدراك والتذوق، وكان مشروع خادم الحرمين الشريفين (المحتوى العربي) الذي تبنته مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية من أجل ما يخدم اللغة لأنه لم يقتصر على الجانب العلمي والتقني بل تجاوزه إلى الإسلامي والتراثي تعزيزا للهوية والانتماء، وتشمل مبادرة خادم الحرمين التاريخية الاهتمام بالمواقع العلمية والتركيز على إنشاء المدونة العربية التي تُركز على مُفردات اللغة العربية وتراكيبها ودلالاتها واستخداماتها وارتباطها بموضوعات المعاجم الإلكترونية وتحليل النصوص وترجمتها آلياً، وتفعيلا للمبادرة قامت قوقل بالاستعانة بجامعات عربية كبيرة وتحديداً جامعة الملك سعود، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وغيرها من المؤسسات والمراكز في المملكة العربية السعودية.

شكرا خالد الفيصل... فأنت سر أبيك، وكلنا يعرف قصته مع الدكتور موريس مؤلف كتاب (التوراة والإنجيل والقرآن في نظر العلم العصري)، الذي اعترف بأنه كان من أشد أعداء القرآن والرسول محمد، وكان كلما جاء مريض مسلم محتاج إلى علاج جراحى يعالجه, فأتم علاجه وشفي! يقول له: ماذا تقول في القرآن، هل هو من عند الله أنزله على محمد؟ أم هو من كلام محمد نسبه إلى الله افتراءً عليه؟ فيجيبني: هو من عند الله ومحمد صادق! قال: فأقول له: أنا أعتقد أنه ليس من الله وأن محمداً ليس صادقاً!! فيسكت

قال: ومضيت على ذلك زماناً حتى جاءني الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة السعودية،فعالجته جراحياً حتى شفي, فألقيت عليه السؤال المتقدم الذكر!! فأجابني: إن القرآن حق وأن محمداً رسول الله صادق!! قال: فقلت: أنا لا أعتقد صدقه!! فقال الملك فيصل: هل قرأت القرآن؟ فقلت: نعم مراراً!! فقال: هل قرأته بلغته أم بغير لغته؟ أي بالترجمة، فقلت: أنا ما قراته بلغته بل بالترجمة فقط! فقال لي: إذاً أنت تقلد المترجم،والمقلّد لاعلم له إذا لم يطّلع على الحقيقة، لكنه أخبر بشيء فصدقه،والمترجم ليس معصوماً من الخطأ والتحريف عمداً!! فعاهدني أن تتعلم اللغة العربية, وتقرأه وأنا أرجو أن يتبدل اعتقادك هذا الخاطئ!

قال: فتعجبت من جوابه! فقلت له: سألت كثيراً من قبلك من المسلمين فلم أجد الجواب إلا عندك, ووضعت يدي في يده، وعاهدته على ألا أتكلم في القرآن ولا في محمد صلى الله عليه وسلم إلا إذا تعلمت اللغة العربية وقرأت القرآن بلغته, وأمعنت النظر فيه حتى تظهر النتيجة بالتصديق أو التكذيب!! فذهبت من يومي ذلك إلى الجامعة الكبرى بباريس (قسم اللغة العربية) واتفقت مع أستاذه بالأجرة أن يأتيني كل يوم إلى بيتي, ويعلّمني اللغة العربية ساعة واحدة كل يوم إلا يوم الأحد الذي هو يوم راحتي, ومضيت على ذلك سنتين كاملتين لم تفتني ساعة واحدة, فتلقيت منه سبع مائة وثلاثين درساً, وقرأت القرآن بإمعان, ووجدته هو الكتاب الوحيد الذي يضطر المثقف بالعلوم العصرية أن يؤمن بأنه من الله لايزيد حرف ولا ينقص,أما التوراة والأناجيل الأربعة, ففيها كذب كثير, لايستطيع عالم عصري أن يصدقها!.... والله من وراء القصد.



abnthani@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد