كل الخطب والدعوات ونظريات القيم والحماسة لها، وكل دعاوى وشعارات الضمير والمبادئ والمثل العليا، التي اجترحت مكانها في أذهاننا منذ الصغر، وكُتبت أمامنا في كراسة (الخط)، أو رسمها خطاط من القارة الهندية غالباً على جدران مدارسنا، ومع كل التبجيل لسموها ورفعتها، لا تعادل قراراً (واحداً) يتخذه مسؤول في لجنة المحاسبة بحق المسؤول عند التقصير، وبحق نومى أو موتى الضمير، وبحق المتهاونين بأمانة ما أُوكل إليهم، وبحق المتسببين بالكارثة، وبحق المتواطئين على التسيب والتفريط، وإهدار حق الوطن والمواطن، وبحق الدمامل القبيحة على جسد التنمية.
هذه الكلمات ليست حماسة مستعجلة، وليست استباقاً لمديح النتائج، فمانشتات الصحف السعودية خلال الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع، تكتب بنمط جديد، وتؤسس - أو تؤشر على الأقل- لثقافة جديدة. قد لا يعبرها سريعاً نظر القارئ، وقد تكسر إلفه ومألوفه. فكلمة (المسؤول) الذي لم يعتد القارئ السعودي مطالعتها إلا في سياق التنويه بما تفضل أو قد يتفضل به المسؤول على المواطن من نعم وآلاء ووعود بالإنجاز، وغيرها مما هو أصلاً واجب محتم على (المسؤول) يتقاضى عليه أجراً، ويحصل بموجبه على امتيازات؛ هذه الكلمة الرنانة (المسؤول) تسبقها كلمة ذات رنين وجوهر جديدين؛ إيقاف ومحاسبة.. وتفاصيل أخرى جديدة مما قرأناه خلال هذا الأسبوع.
هذا كله.. يكسر إلف القارئ السعودي والمواطن السعودي. لما يُحاط به (المسؤول) من حصانة ذهنية واجتماعية، ولما يُدجج به من اعتبارات. حتى لو علم المواطن السعودي.. أن هذا (المسؤول) يهدر حقه، وأنه لا يقوم بواجبه، وأنه فوق المساءلة والمحاسبة، وأنه دونه في القدرات والحقوق والاعتبارات الوطنية.
هذا (المسؤول) يجد اليوم من يفتح له كشف حساب بالمنجزات والسيرة الوظيفية ومجرياتها.. نحن أمام ثقافة محاربة الفساد بشكل فعلي، تحررها الممارسة الحقيقية، وليست ديباجات النظم البلاغي وقصائد المتفائلين والولع بالشعارات المثالية التي سترت ومكَّنت القبح السلوكي من التجذر والامتداد والديمومة والأمان من الكشف.
بلا مبالغة نحن أمام عصر جديد - في هذا الصدد - له ماقبله وما بعده. عصر يُساءَل ويُحاسَب فيه المسؤول عمَّا اقترف؟
عصر دُربة وتعويد الناس والمسؤولين على أن ثمة من يراجع ويدقق ويحاسب غير الضمير، ويراقب بعد الله، ويقيِّم منجزهم وأعمالهم غير الوازع الديني الغيبي، لن يُكتفى بالثقافة المدرسية والنمط الأخلاقي السائد الذي صاغته المُثُل وعبَّرت عن الالتزام به؛ وفقاً للمثال المنَّوه عنه أعلاه.
بل سيكون هناك من يواجهه بلماذا أو كيف ومن أين؟ ستُفتح ملفات. ويُعاد استخراج وثائق ومراجعة أرقام، والبحث في سيرة وتفاصيل أداء وظيفي. سيكون ثمة فعل حي وحقيقي، بعيداً عن سقف الكلام العالي. والفضاء المعطر للخطب العصماء؛ لأننا اكتشفنا - مع الأسف - أن القيم والمثل والمبادئ تضيع عندما تذوب في طنين الأصوات الرهيفة والحادة والمتهدلة والباكية والمتباكية. وعندما تُرسم على الجدران، وعندما تكون هلاماً مجرداً مبثوثاً في الهباء. وعندما لا تجد واقعاً يسندها.