Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/12/2009 G Issue 13601
الخميس 07 محرم 1431   العدد  13601
جبل حالية: رواية الاقتحام
د. محمد بن يحيى أبو ملحة

 

هنا حول جبل حالية، أو حول جبال يحكيها جبل حالية نقف مطايانا لنستعدّ لرحلة أدبية سردية ماتعة مع رواية (جبل حالية) للأديب الألمعي (إبراهيم مضواح).

في لغة شاعرية مرهفة ومن خلال عيون الموتى ينطلق بنا الراوي ليقوّم لنا حياتنا التي نحياها، في تداخل بديع بين الموت والحياة، وتنقّل حر بين الحياة والموت.

وإذا كنا قد اعتدنا أن تبدأ رحلة الحياة ورحلة السرد من الولادة حتى الموت، من المهد إلى اللحد فإن رواية (جبل حالية) تبدأ من اللحد إلى المهد، وتقفنا في محطات الحياة المختلفة حياة الإنسان، وحياة المكان، وحياة الزمان..

إنها رواية الاقتحام؛ فالراوي يقتحم عالم الأموات من خلال سرده من وجهة نظر (عمر السورجي) من داخل قبره، والأموات يقتحمون عالم الأحياء من خلال محاكمة (عمر السورجي) لهم. المدينة تقتحم القرية فأبناء القرية يقتحمون المدينة، والقرية أصبحت مسخاً للمدينة تعيش بأخلاقها وتفتقر إلى حسناتها، وعيوب المدينة سكنت زوايا القرية. الماء يقتحم بيت (عمر) أثناء ولادته عبر الجدران المتصدّعة، والنوافذ المخلّعة، ومن تحت الباب الخشبي العتيق. (ص7)، و(إبراهيم مضواح) يقتحم فن الرواية بروايته الأولى (جبل حالية).

إنها رواية (المفارقات) مفارقات الحياة والموت، الحزن والفرح، النصر والهزيمة، فإلى جوار (قرية السورجة) رمز الحياة كان يربض (جبل حالية) رمز الموت، وحين انتقلت (آسية) الحبيبة إلى جبل الموت انتقلت إليه الحياة يقول الراوي: (هنيئاً لسكان جبل حالية جوار آسية، صارت الحياة هناك، حيث آسية، وملأ الموت السورجة). (ص 77)، وحين ولد (عمر السورجي) تصارع الحزن والفرح: الحزن لوفاة والدة (عمر) أثناء ولادته، والفرح بولادة (عمر)، ولكن تغلّب الحزن على الفرح فبينما كان العرف يقتضي إطلاق الأعيرة النارية ابتهاجًا بمقدم الصبيان إلا أن موت أم عمر بسبب ولادته أطفأ كل فرحة فقد تغلّب الحزن على الفرح، فصار (عمر) شخصية مشؤومة كما تنبزه جدته (فضة) في أوقات غضبها عليه (ص8). وشؤم هذا المولود جاء من عدة مصادر فقد وافق العدوان الثلاثي على مصر، وتسبّب في موت والدته، وحظي بكره أبيه له لأنه يذكّره بلوعة فراق زوجه الحبيبة، وقد جاء في ليلة بائسة مطيرة.

ويعمّم (عمر) هذه النظرة على كل الأطفال، حيث يستنتج من خلال ما حصل لوالدته أثناء ولادتها به، ولِ(تركية الأهدل) أثناء ولادتها - أيضًا - أن معركة الحياة خاسرة، فالمولود يغتال أمه احتجاجًا على ولادته (ص79).

ومن تلك المفارقات أن المذيعات الجميلات يقرأن أخبار الحروب والكوارث بابتسامة باهتة! (ص188).

إنها رواية تكسو عينَي القارئ باللون الرمادي، فالوسادة - اللازمة التي يتمنّاها (عمر) بين الفينة والأخرى رمادية، وحياة عمر رمادية، وواقع العرب رمادي، وواقع شباب الوطن رمادي!

السرد:

يأتي السرد بضمير الغائب، من خلال أسلوب السرد المباشر. وعلى الرغم من أن هذا الأسلوب قد يوقع في الرتابة والملل إلا أن الكاتب استطاع التغلّب على ذلك من خلال السرد من وجهة نظر الميت، والانتقالات الرشيقة في الزمن، بين الماضي والحاضر والمستقبل.

وبرغم أن كثيرًا من الأحداث كانت معروفة سلفًا إلا أن الرواية لم تفقد عنصر التشويق بسبب ذكاء الراوي، وشاعرية اللغة.

وقد وظف الراوي أسلوب الاستشراف من خلال الحلم الذي رآه (عمر) عن موت (آسية).

الحبكة:

تُبنَى الحبكة بأسلوب فيه قدرٌ من التقليدية (حبيب، ومحبوبة، وقوة تقف في وجهيهما، وتمنع لقاءهما)، وتشتد العقدة عندما خطب (سالم المهدي) (آسية)، ولكن الراوي يتجه بآسية إلى الانتحار دون أن يكون هنالك التمهيد الكافي.

وتنتقم الرواية في نهايتها من (سالم المهدي) حين جعلته يعيش وحيدًا بين أرجاء (السورجة) التي ظلم أهلها، وابتلع أموالهم، ولكن تُختَم الرواية ختامًا باهتًا فقد كانت بحاجة إلى نهاية أكثر درامية.

الزمان والمكان:

الزمان التاريخي للرواية في الفترة (1956م - 2006م)، وهي فترة حياة (عمر) وهي فترة مليئة بالأحداث الجسام على مستوى الأمة العربية (العدوان الثلاثي، هزيمة67، حرب أكتوبر، احتلال الكويت، احتلال العراق...).

يبدأ الزمن من حيث انتهى: يبدأ من موت عمر، واستيقاظه في قبره ثم يعود ليقص علينا لحظة ولادته، ويتنقّل الراوي بين الموت والولادة والأحدث التي بينهما في سلاسة، وذكاء، واقتدار.

ومن جماليات الزمن أننا نحاول أن نتخيله كما يشعر به الأموات، حيث كل الساعات سواء. وفي القبر وجد عمر الفرصة التي كان يتمناها كثيرًا: فرصة أن يتأمل ما حوله دون أن تشغله قيود الوظيفة، وإزعاج الأطفال.

والمكان يبرز لنا أول ما يبرز من خلال العنوان المكاني: (جبل حالية)، الذي كان على اسم أحد جدات عمر التي انتحرت بعد خيانة حبيبها لها فسمي الجبل باسمها تخليدًا لذكراها أو تخليدًا لعارها.

الشخصية:

تتداخل شخصية الراوي مع شخصية عمر في هذه الرواية.

ويستثير الراوي تعاطفنا مع شخصية عمر منذ البداية حين ذكر ضعف رئتيه ومرضه بالربو.

وكان (عمر) شخصيةً مرفوضةً ممّن حولها منذ البداية: موت الوالدة، تشاؤم الأب، العدوان الثلاثي، أمطار وليلة بائسة ليلة الولادة، ثم بعد ذلك زوجة غير وامقة!

وقد كان عمر يتميز بصفاء نفسه، ونقاء سريرته، براءة وهي الصفات الكلاسيكية للبطل. وبمثل تلك الصفات تتميز (آسية) المقابل الأنثوي لشخصية البطل.

وأما شخصيات الشباب الأربعة فألحظ فيها: سطحية البناء والتخطيط الروائي المرسوم سلفًا. (جمال منفتح - عمر أديب محافظ - سعيد سلبي - نافع مطوع).

وأما شخصية الوافد المصري فقد كانت معاملَ الثبات والتقييم: (المدرس الأزهري، والطبيب النفسي).

اللغة:

يُحمَد للكاتب استخدامه للغة الفصيحة في سردِه، ومعظمِ حواراته، مع ملاحظة أنه استثنى من ذلك اللهجة المصرية التي لم يستطع التغلّب على إغرائها فقد أورد حوارات الشخصيات المصرية باللهجة المصرية مما جعلها نشازًا عن البنية اللغوية للرواية!

وممّا تميّزت به الرواية: اللغة الشاعرية في سرد الراوي.ويُحمَد للكاتب -كذلك - قلة الأخطاء اللغوية والنحوية.

وممّا يُلحَظ على الرواية قلّة الحوارات فيها وهذا ممّا قلّل حضور المشاهد في جسد الرواية. والحوار وسط بين الفصيحة والعامية.

الرؤية:

يحاول الكاتب تقديم رؤيته من خلال الراوي الذي ينتقد تفريق المجتمع بين المتحابّين، واستسلامه للخرافة، وشيوع الظلم، والمادية، والانتهازية حتى في مجتمع القرية الذي فقد كثيرًا من خصوصيته الفطرية، ونقاء سريرته.

وختامًا: أقول إن (إبراهيم مضواح) يضع قدمه على أرض صلبة في خطوته الأولى في رحلة الألف ميل الروائية.

أستاذ الأدب الحديث المساعد بجامعة الملك خالد



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد