Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/12/2009 G Issue 13601
الخميس 07 محرم 1431   العدد  13601
في الرياض:
الحياة في المملكة.. وهيا في البرلمان
أشجان هندي

 

هكذا هي الرياض في فصل الشتاء، أنثى جميلة تمر نسماتها الباردة على قلبك، فتشفُّ حواسك، ويزدادُ قلبك دفئاً.. في صباحاتها المشمسةِ حنيناً: تغازلك مشاعر لا تعرفُ مصدرها، فلا تملك إلاّ أن تلملم روحك، وتكوِّمها قرب مدفأة الذكريات.. وتظلُّ الرياض فاتنة عصيّة على النسيان، وتظلُّ حائراً في سرّ جمالها الذي لا يتجلّى إلا للمغرمينَ العارفينَ بأسرارِ الجمالِ العصيّ.

كنتُ قد خرجتُ من إحدى الجلسات الصباحية لمؤتمر الأدباء الثالث الذي اُختتم مؤخراً في مدينة الرياض، عاقداً بأصبعيه باقةً من التوصيات الياسمينيّة، ومسجّلاً حضوراً مبهجاً في الذاكرة.. مؤتمرٌ رسمَ في كف مستقبل الأدب في المملكة نقوشاً ملونة، ومرّ كنسمة شتائية من نسمات الرياض في مثل هذا الفصل من العام، مختتماً عاماً ودّعناه لاستقبال وجهِ عام.. احتضننا ثلاثة أيام، ووعدنا بالأجمل، وابتسم، ثم ودّعنا. ذلك المؤتمر الثالث.. تحيةٌ لكل من سقوا وردَ بستانه الذي سأعود إليه في مقالٍ آخر.

خرجتُ من جلسة المؤتمر تلك وفي رأسي يزدحم كلامُ الكبار، رؤاهم، آمالهم وتطلعاتهم متجهة إلى (مدارس المملكة) لحضور احتفالية للأطفال تُقامُ بمناسبة اليوم العالمي للطفل.. إنني ذقتُ طعماً مغايراً للحياة، وإنني سعدتُ بالشربِ من جدولٍ مزدحمٍ بالثقافة والفن والإبداع في يومٍ واحد: يعني أنني كنت في الرياض في ذلك اليوم.. ازدحامُ صباحي الذي بدا ليَ مثمراً بامتياز جعلني أشعر بأنني أعيش الحياة، فكم من أيامٍ تمرّ بنا خاليةً باردةً لا حياةَ فيها.. وكم هو جميلٌ أن نعيشَ الحياة في المملكة.. وأن نزدحمَ في الوطن بمواعيد مزهرة تخدمُ الفكر والوعي، وتهبُ صباحاتنا طعماً آخر.

وأنا أنطلق من البوابة إلى حضن حفل الأطفال اسبشرتُ خيراً حين رأيت النجم الذي يعشقه الأطفال الفنان (نايف الكرشمي) يقف مبتسماً، فالكرشمي من الوجوه المبدعة الشابة التي تفعل أكثر مما تقول.. وكم هي قليلة هذه الوجوه في واقعنا الثقافي والفنّي وغيرهما.. حضورُ هذا الفنان بصحبة باقةٍ من الفنانين الذين أهدوا ذاكرة الأطفال أعمالاً فنيّةً مميزة فأحبهم الأطفال أضفى جواً من المرح، وأضاء المكان ببهجةٍ مضاعفة.. وأكّد أنّ ثمّة فرحةً مخبّأة في الداخل.

رقصت روحي طرباً.. وأنا أجلس داخل الحفل على أحد المقاعد التي وُضِعت عليها بعناية قمصان صغيرة بيضاء كحمائم سلام رُسِمتْ عليها صورٌ ملوّنة واندسّت فيها كلمة (الحياة) لتزيد مشهد الصور عذوبة. الحياة، هي الكلمة التي أبحث عنها هذا الصباح.. الحياة التي تليق بالراكضين حبّاً خلف غيوم الفكر والثقافة، هي ما أحلم بأن أعيشه في الوطن وهو متجددٌ كل يوم كما يليق بجماله.. و(الحياة) هو اسم الصحيفة التي تبنّت ورعت (برلمان الطفولة) الذي أضاءَ هذا الصباح بهذه الاحتفالية الملوّنة.

أطفالٌ يرقصون ويغنون ويتحدثون أدباً وشعراً بثقةٍ قد تفوقُ ثقة الكبار في حماستها وحرارتها يتدافعون فوق خشبة المسرح كغيومٍ صغيرةٍ تعدُ بمواسم خضراء.. مواسم خيرٍ قادمة تُزرعُ بصدقٍ وحبٍ وإتقان في أرض المملكة.. أطفالُ الوطن القادمون يعلموننا كيف نُبدع حين نُحب، وكيف نعيشُ يومنا بفرحٍ مُنتِج داخل أسوار حديقتنا.. ويعالجون بأحلام الصغار خساراتِنا نحن الكبار الذين لم نعرف كيف نعيش بإبداع داخل الوطن نتيجة ما خططنا له بأيدينا.. فأصابتنا الخيبة، وعاث بأرواحنا اليأس والملل.

ومن غيمةٍ إلى غيمة وجدت نفسي أطير محلّقة سعادةً في سماء مسرحية (غيمة)، التي قُدمت على خشبة ذلك المسرح كجزء من تلك الاحتفالية الكبيرة بأطفالها وإعدادها وإخراجها.. تقافز أعضاءُ البرلمان على المسرح وأمطرونا إبداعاً.. (برلمانُ الطفولة) يضم مبدعين حقيقيين، صغيرةٌ أجسادهم، كبيرةٌ طموحاتهم. لا تملك أمام ما يقدمونه إلا أن تصفّق بحرارة: لهم وللمبدعة السعودية الشابة (هيا السويّد) التي ألّفت وأخرجت مسرحية (غيمة)، وحرّكت بأناملها الخلاّقة الأطفال على المسرح كما تُحرّك الدُمى بمهارةٍ وحبٍ وإتقان.. والتي تبنّت إبداعيّاً أطفال هذا البرلمان الذي يتعلم أعضاؤه الصغار كيف يعبّرون عن آرائهم بحريّة، وكيف يعالجون مشكلاتهم، وكيف يطالبون بحقوقهم دون خوف.. والأهم من هذا وذاك أنهم يتعلمون كيف يحبون وطنهم ويعملون من أجله من خلال إبداعهم.

لم أزل أصفق لك يا (هيا) ولبرلمانك الصغير و(للحياة) التي منحتك هذه الفسحة الإبداعية التي تستحقينها.. أنت الغيمة في وطنٍ تزدحم سماؤه بغيماتٍ مماثلة، منها ما هطل، ومنها ما ينتظر، وما بدّلن تبديلاً.. فافسح يا وطن الطريقَ لغيماتك أحياكَ ربُّ المطر والنماء.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد