سبق في كتابه (نقد الخطاب الثقافي) الدكتور عبدالله الغذامي إلى حقيقة وجود الثقافة مقابل حقائق الأدب في التاريخ، وإلى مدى انعكاس صورة المثقف عن طبيعة دور الأديب/ الشاعر، ومن مضمون أسبقية هذه المقابلة النقدية إلى ما حال إليه اليوم سيكون من الأقرب اعتبار انحسار الأديب عن المشهد الثقافي وأقواله ليس دلالة حضور حقيقي للمثقف قدر ما هو إشارة إلى فاعلية دور جديد يؤسس لتاريخه الخاص وبانعكاس مكرر إنما لغير الأديب الذي يأخذ بالغياب، دور لآخر أوجد مع الزمن مكانة أبرز ومقعدا أعلى في المدرج الثقافي عند المتلقي، ولأن المتلقي هو الفرد الذي يشكل طرف القياس في هذا المبحث، سيكون كاتب المقال هو الدور الجديد الذي يفعل بصورة أكثر وضوحا لدى المجتمع وبأقوال أكثر قبولا، صار المقال أهم وأكثر الأدوات تأثيرا ووصولا، فتشكل الكثير من وعي القراء بمجموع الأفكار والآراء والنقد في هذه المقالات، وإن كانت البلاغة في الأدب أداة التشكيل للمعنى وتلقيه فإن أساليب كتابة المقال لا تعلو عن لغة المجالس إلا بكونها موثقة برسمية النشر الصحفي كما يبدو، والأديب الذي كان صاحب القول في الفكر العربي عامة لم ينحسر عملياً أمام حراك ثقافي سعودي يراد ولم يبلغ، بل انحسر تحت واقع قراء يرتبط بالمقال في مختلف وقائعه الحياتية ويتأسس معرفيا على المستويين الواعي واللاواعي على قول كتاب المقالات، والكتاب كذوات متفاوتة لكنما في عملها ما يدرج الكل تحت هدف واضح هو المساهمة الاجتماعية بأعمال كلامية، ويتحقق للكتاب في سعيهم على العمل التوعوي أو التنويري القدرة العالية في التأثير على وعي المتلقي ولا وعيه سواء، وذلك من خلال قراءة المقال بشكل يومي ولزمن مطول بخط تراكمي يفتقد للمباشرة والانتظام مما يزيد من سلطة مضمونه ولا يضعفه، فهل يحتمل هذا المبحث تأويلا مطولا لعنوان قصير هو عجز المثقف عن الحضور الاجتماعي؟ أو يحتمل اعترافا من العاملين في الثقافة بضعف تأثير أعمالهم في المجتمع السعودي لعلة فيها، وإن كان الحراك الثقافي هو مفهوم الأعمال الثقافية وأثرها على الواقع فإن ما يقارب المئات من التعليقات يوميا وعلى المقال الواحد في المواقع الالكترونية لن يعد على الحراك بمفهومه هذا، تحقق لكتاب المقال من التواصل مع القراء في عقد أو أقل الضعف وأكثر مما تحقق للمثقفين، وليس لهذا المبحث شذوذ في إخراج كتاب المقال من الجمع الثقافي لأن المفاهيم التي يؤسس لها في المشهد تقدم تعريفا حاد الوضوح حول شؤونه الإنتاجية، لكن الاستفهام يتجه إلى مدى مراجعة المثقفين لأنماط تفكيرهم وإلى قياس الفارق بين القبول الجماهيري لإنتاجهم مقابل المقالة، وفي السؤال طموح إلى إمكانية مساءلة المثقفون لذواتهم عن اللاوعي الذي يحكمهم وطبيعة تكوينهم السيكولوجي وكيفية انعكاسه على منتوجهم ومن ثم حقيقة وجودهم الحضاري, هل تختلف الشروط الزمانية والمكانية بين كتاب المقال والمثقفين أو أن الاختلاف الحقيقي هو إشكالية القنوات التي يفعلها كل منهم، هل بلغت الصحف من الحرية كشرط ما يمنح المقال هذه القدرة على الوصول أو أن كتاب المقالات هم من تحرروا من الشروط واستطاعوا التحايل عليها، وإن كان من الغي القول بوجود عجز نفسي عند المثقفين عن الإبداع فإن الوعي الاجتماعي غاية تفرض الاعتراف بعجز القنوات والحيلة الثقافية عن تحقيقها، رغم اتساع الأفق الثقافي وقدرته على استيعاب التنوع والتجديد في الأدوات مقابل التقليد الذي يحكم أداة شبه وحيدة للكتاب هي المقال، هل نجحت المهنية كوظائف العمل الصحفي في تحفيز الذات مقابل ضعف المثقفين كذوات على التقدم بإيمانهم بهمومهم الإبداعية ضعفا ينبئ بمقاربة الفشل، وبين النجاح وضده ليس من الحكمة بناء المباحث النقدية على أحكام قطعية كهذه، لكنما التراجع عن الحكم لا يعني أيضا التراجع عن الوقائع التي تأولها، لكن في تحليل الدلالات ما قد يفتح لمعانٍ أخرى، فهل من الإمكان المعرفي تقديم احتمالية أن كتاب المقال جزء من الإنتاج الثقافي أخيراً، أو أنهم يشكلون ردة فعل معرفية على سلطة عجزت عن إنجاز وعودها الجمالية؟ والصحافة حاملة المقال ووجه التعبير اليومي للحياة لماذا قدمت للمقال ما لم تقدمه للإنتاج الثقافي، ثمة خلل في الصحافة الثقافية والعاملون فيها فما يكون، هل نقلوا ذواتهم الثقافية بهشاشتها السيكولوجية وأنماط التفكير التي تحكمها إلى المجال الصحفي، فصارت الصحافة ليست مرآة المجال فقط بل أحد أجزاء المشهد وكان أن الذي عاق المتلقي وجمهور القراء عن الإنتاج الثقافي من نبعه الأصلي هو ذاته الذي عاق الصحافة الثقافية عن تقديم مجالها إلى القارئ بشكل يومي وبنصوص قابلة للقراءة من قبل الجمهور فخسر الطريق المهم والأجمل للعمل الصحافي وهو الوصول اليومي إلى الجميع وبما يسير معهم إلى حيث أن يسيروا معه، أو أنها ليست إلا مسارات طبيعية للجهود من حيث أحجامها وأهدافها وقنواتها، هل يصر الشرط الزماني على تعطيل السرعة التي تأخذ العصر ومجتمعاته وكأن المجتمع السعودي لا يثبت خصوصيته بميراثه بل وبمستقبله أيضا! كيف تصل المباحث إلى هذه المنحنيات، هل تمكن العجز المعرفي في النقاد والمشتغلين في البحوث من القدرة على كشف مناطق أخرى للقراءة والوصول إلى تأويل أكثر واقعية أو قدرة على الوجود الحقيقي بمعنى أدق، ربما والاحتمالات الأكثر وحدها تكفل التقدم تماماً كما تكفل قيام المبحث بقيمته المعرفية الأساسية (كشف الأماكن المعرفي).
Lamia.swm@gmail.com