Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/12/2009 G Issue 13601
الخميس 07 محرم 1431   العدد  13601
ما الذي يجمع الوباء الصحي والوباء الاجتماعي..؟
عثمان عبدالعزيز الربيعة

 

تأبى أن تفارق مخيلتي صورة معالي وزير الصحة وهو يتلقى بنفسه التطعيم ضد عدوى انفلونزا الخنازير، ثم يقوم بتطعيم ابنته بذات الطعم.. سبب رسوخ الصورة ليس الصورة لذاتها كحدث إعلامي بل ما يتلاقى في الصورة

من رموز وما توحي به من معان، فهي تقرن بين شيئين:

الأول: أنها تأكيد لأهمية التطعيم ضد المرض - وأنه حتى وإن كانت أعراضه في أغلب الأحوال بسيطة - إلا أنه وباء يجب اتقاؤه ما دامت الوسيلة لذلك متوافرة، هذا التأكيد له مدلول صحي بحت.

الثاني: أنها نفي حاسم للتهمة التي شاعت كالوباء عن خطورة اللقاح، وليس أكثر حسما لهزيمة هذه الشائعة والوقاية من أثرها من قيام الوزير بتطعيم نفسه وفلذة كبده. وهذا النفي له مدلول اجتماعي، إنه اللقاح المضاد لوباء اجتماعي هو في هذه الحالة الشائعة.

إن سريان الشائعات يتبع القوانين نفسها التي تسري على الوباء المرضي.. فهو يبدأ بوجود مصدر أولي هو الذي يسرب الشائعة، سواء كانت فردا أو مؤسسة (يقابل ذلك في حالة المرض المصاب الاول بالعدوى) ثم يلتقط مخالطو هذا المصدر جراثيمه (اكاذيبه) لينقلها كل منهم بدوره إلى من يخالطهم في شكل متوالية هندسية إلى أن يصل الوباء إلى أقصى مداه. وإذا كانت الشائعات تنتقل بالسماع أو الكتابة أو بالشكل العصري الحديث عن طريق الجوال، فإن أوبئة اجتماعية اخرى تنتشر بوسائل أخرى، النموذج الصارخ لذلك يتمثل في انتهاك الأنظمة المرورية، أما وسيلة انتقال هذا الوباء المروري فهي المشاهدة. هل تظنون أن سائق الليموزين - مثلاً - يجرؤ على أن يستدير بسيارته أمام أي تقاطع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار عند اخضرار إشارة المرور، أو ألا يبالي سائق الشاحنة باحمرار الإشارة عند وصوله للتقاطع فيواصل سيره، لو لم يشاهدا السعوديين يفعلون ذلك مرارا وتكراراً؟ فهذه الأمثلة عن السلوكيات المرورية لا تعكس حالات فردية بل وبائية، كل يتعلم من الآخرين. وعلى نمط مشابه ولكن بوسائل أخرى تنتشر بين بعض الفئات الاجتماعية المخدرات أو الرشوة، وفي كل من هذين الوباءين فإن المصدر الأول هو المروج أو الوسيط، أما المخالطون فإنهم يلتقطون العدوى من خلال العلاقة أو التأثير الشخصي أو المحاكاة - أو بعبارة أخرى من خلال (التماس) - وعندما تكون السلوكيات غير المنضبطة فردية يسهل معاملتها فرديا بعلاجها أو حتى بتجاهلها. لكنها حين تتفشى وتصبح ظاهرة وبائية فعندئذ يصير التعامل مع كل حالة على حدة أمراً بالغ الصعوبة وعديم الجدوى ويتطلب معاملة مختلفة تطبق أساليب جامعة ومانعة، أي أنها تعم الجميع في تأثيرها ونتائجها وتمنع العدوى من أساسها أو تمنع انتشارها، أي باختصارتطبق مبدأ الوقاية خير من العلاج في الظواهر الاجتماعية كما في الظواهر الصحية الوبائية.

أولى وسائل الوقاية هي التوعية وشأنها معروف ومألوف في المدارس والمساجد وفي الكتب والمنشورات وفي الملصقات في الأماكن العامة وفي وسائل الإعلام وغير ذلك من الأوعية التوعوية، وهذه الوسيلة تحاط بهالة من الإجلال والاهتمام مع أنها الوسيلة الأقل فعالية وتأثيراً ما دامت عاجزة عن تغيير أنماط السلوك لكنها مع ذلك ضرورية لأنها القناة المفتوحة التي توصل المعلومات إلى الأفراد الذين ينتظرون مثل هذه المعلومات ولديهم القدرة والرغبة في استيعابها وضرورية لإبراء ذمة المسؤول (تحت شعار) (لا تقول أنا ما علمتك).

ثاني هذه الوسائل التطعيم ضد الوباء بلقاح معروف، وهذه وسيلة تنفرد بها أكثر الأوبئة الصحية (وليس كلها) فعلى سبيل المثال تم استئصال مرض الجدري ومرض شلل الأطفال من المملكة بإعطاء اللقاح الفعال، لكن مرضاً مثل الإيدز لا يوجد لقاح مضاد له حتى الآن، لو أردنا أن نبحث عن لقاح مثيل للقاح الطبي في سرعة الفعالية من أجل الوقاية من الأوبئة الاجتماعية فلن تجد شيئاً من ذلك البتة. إلا إذا اعتبرنا التربية الصحيحة المبكرة التي تغرس في الفرد التشبث بالخلق القويم والإيمان القوي نوعاً من التحصين ضد هذه الأوبئة، بما توجده في النفس من مقاومة لانحراف السلوك وانتهاك القوانين، فتلك هي مهمة اللقاح الذي يعطى ضد الأمراض الوبائية: أن يحفز الجسم على تكوين جسيمات مضادة تقاوم أو تبيد الجراثيم الغازية، لكن التربية - بمعنى غرس القيم في الذات البشرية- تتطلب كما اللقاح وسطا تنضج فيه لتصبح فعالة مؤثرة. فالبيئة الأسرية السليمة والقدوة الحسنة والمصداقية والعدالة الاجتماعية، جميعها مكونات لابد منها لهذا الوسط الذي تثمر فيه التربية. أما عندما تتلوث البيئة الاجتماعية ويصيب الخلل المحيط الاجتماعي فتسود فيه أعراض مثل التفاوت الكبير في مستويات المعيشة والبطالة وضعف الروابط الأسرية وغلبة الواسطة والمحسوبية واستغلال النفوذ، فإنه عندئذ لا مناص من إعطاء أقصى اهتمام لإصلاح البيئة الاجتماعية. ولا يختلف ذلك عن المجال الصحي، فإنه عن طريق إصحاح البيئة وحده أمكن التخلص من أوبئة مثل الكوليرا والتهاب الكبد (أ) والتراخوما - على سبيل المثال لا الحصر-.

ولكن سواء علينا أقاومنا الأوبئة بالتوعية أو التحصين أو الإصحاح البيئي فلا غنى للمجتمع كي يعمل جميع أفراده على هذا النهج الوقائي -عن قوة رادعة مصدرها التشريعات والأنظمة بما تتطلبه من آليات للرقابة وما تتضمنه من جزاءات وعقوبات تترتب على مخالفتها. وهنا تكفي الإشارة إلى تحريم المسكرات والمخدرات في الشريعة الإسلامية وأنظمة مكافحة المخدرات أو مكافحة الرشوة أو الأنظمة المرورية والأجهزة التي تراقبها وتطبقها. صحيح أن الجزاءات والعقوبات التي تتضمنها تطبق لاحقا بعد ارتكاب المخالفة، لكن عنصر الوقاية يكمن في أن العلم بوجودها والخوف من تطبيقها يردع من لديه ميل للمخالفة. وهذا أمر ليس خاصاً بالأوبئة الاجتماعية، بل ينطبق أيضاً على الأوبئة الصحية. على سبيل المثال هناك لوائح دولية تلزم المسافرين القادمين من بلاد موبوءة بأمراض معينة -مثل الحمى الصفراء- بحمل شهادة تطعيم. وفي بلادنا أصدرت الدولة في عام 1399هـ نظاما يشترط لمنح شهادة الميلاد استكمال التحصين ضد أمراض وبائية محددة. وكان من نتيجة تطبيق هذا النظام أن ارتفعت نسبة التحصين ضد هذه الأمراض من أقل من 50% إلى أكثر من 95% من الأطفال المستهدفين. ولم نعد نشاهد موجات من هذه الأوبئة، بل اختفى بعضها تماماً وانحسر ظهور بعض الآخر إلى مستويات متدنية توشك على الاختفاء. ومن الأمثلة الأخرى أنظمة الاشتراطات الصحية المطلوب توافرها في محلات تداول الأطعمة. ومن أجمل الأمثلة قرار مجلس الوزراء في أول العام 1425هـ بإلزامية الكشف الطبي قبل الزواج الذي يهدف للحد من بعض الأمراض الوراثية التي اتخذت في بعض المناطق طابعاً وبائياً.

تلك الوسائل التي ذكرناها وغيرها مما فات ذكره وضعت من أجل حماية المجتمع عامة من تفشي أمراض معدية أو ظواهر اجتماعية مريضة ذات طبيعة انتشار وبائية، وهي -كما نلاحظ- تتبع منهجاً واحداً أو هي على الأقل متقاربة في المنهجية. وفي انتشارها تتماثل أيضاً وسائل رصدها وقياس مدى خطرها وعوامل انتشارها. الآلية المتبعة في مجال الأوبئة الصحية هي الاستقصاء الوبائي والمسوحات الصحية. وفي بعض الأمراض الوبائية ذات الطبيعة المزمنة تنشأ لهذا الغرض سجلات وطنية دائمة لمتابعة تطور الوباء وما يطرأ على أحوال الأفراد المصابين من تغيرات. ومثل هذه الآلية نجد مثيلاً لها في الظواهر الاجتماعية المرضية. وتمثل البحوث والمسوحات الاجتماعية وسيلة لتحديد مدى استفحال الظاهرة وظروف انتشارها أو استمرارها. إلا أن هذه البحوث لا تكون مستوفية لعناصر الترصد ما لم تدعم بالمعلومات التي يسجلها الأخصائي الاجتماعي أو النفسي عند دراسته للحالات التي تستقبلها مؤسسته (المستشفيات - المدارس - مراكز الهيئات الرقابية - أقسام المرور - أقسام التوقيف والحبس - مراكز الرعاية والحماية الاجتماعية) أو بالمعلومات التي تدونها تقارير الجهات الرسمية، أو غير ذلك من مصادر المعلومات التي يمكن الركون إلى مصداقيتها.

إلا أن جميع هذه الآليات الراصدة تصبح ناقصة الجدوى والقيمة - مهما كانت درجة جودتها - إذا فشلت الحقائق التي تتوصل إليها في إحداث تطور في كيفية التعامل مع هذه الأوبئة وزيادة في فعالية مكافحتها.

لقد كان ظهور معالي الدكتور عبدالله الربيعة وهو يقوم بتطعيم نفسه وتطعيم ابنته بلقاح أنفلونزا الخنازير - ليؤكد جدوى اللقاح ويبطل الشائعات التي أثيرت حوله - مناسبة أوحت لكاتب هذا المقال بالحديث عما يجمع بين الظواهر الاجتماعية المرضية والأمراض السارية من الناحية الوبائية، وأنه يمكن مواجهتها بأساليب متماثلة، على الرغم من الاختلافات في جوهر كل منها، إلا أن هناك شيئاً آخر يتجاوز الاختلافات ويجمع بين الأوبئة الصحية والاجتماعية، ذلكم هو الآثار التي تخلفها، فعلى سبيل المثال يترتب على وباء المخالفات المرورية - وهو وباء اجتماعي - آثار صحية معروفة (من جراء الحوادث)، وعلى وباء المخدرات مرض الإدمان وأمراض نفسية وعضوية أخرى. وربما العكس فيخلف الوباء الصحي آثاراً اجتماعية، ولا نريد هنا أن نذهب بعيداً فنضرب بعدوى الإيدز وبصماتها على العلاقات الاجتماعية مثلا على ذلك، بل نعود إلى أنفلونزا الخنازير القريبة الحدوث، فنعرف مثلا من الكاتبة المغربية اكرام عيدي -كما جاء في صحيفة الشرق الاوسط في 30 نوفمبر 2009 (أن هذا الوباء غدا مشروعاً إصلاحياً لسلوك وعادات متغلغلة في عمق تربة المجتمع المغربي، وذلك بوضع قطيعة مع تبادل القبل بين الأفراد في المناسبات وفي الأيام العادية، لما لها من دور في انتقال الأمراض بين المتصافحين)، هذا في المجتمع المغربي، أما في المجتمع السعودي فلا يزال الحاجز قائماً كالطود العظيم بين ما يعلم وما يعمل، وبصرف النظر عن اختلاف أو تلاقي الأسباب والآثار فإن انتشار الأمراض الوبائية الاجتماعية أو الصحية هو هم مشترك ومصدر قلق للمجتمع بأسره، ولكنه يتطلب مواجهة منهجية علمية تكاملية بدون هلع أو ارتجالية ومنتهية بوضع حلول جذرية فعالة من الناحية الاجتماعية والصحية، وإذا كنا ابتدأنا بالحديث عن وباء أنفلونزا الخنازير وهو مرض معد، فلنختم بذكر وباء السكري وهو وباء غير معد، لكنه يصيب ما يقرب من 25% من سكان المملكة السعوديين، وللأنماط المعيشية (كالتغذية والحركة) دور كبير في ظهوره وانتشاره من خلال الإفراط في التغذية والإقلال من الحركة، فهل يمكن مكافحة هذا الوباء دون تكامل الحلول الصحية والاجتماعية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد