من العلل المستحكمة في بنيتنا الثقافية، عدم تقبُّل الخلاف والتبرم من المخالف والشعور بالتحامل عليه، ومن ثم العمل على إقصائه - جاهلين أو متجاهلين - أن التعاطي الرشيد مع الأفكار
المغايرة لا يتم إلا من خلال وضعها على بساط البحث وتشريحها وتفكيك جزئياتها ومعرفة إيجابياتها وتسليط الأضواء على مكامن وهنها ونقاط قصورها.. الجاهل يفند رأي المخالف من خلال نظام لغوي مفعم بالعنفية والآليات المتشنجة وممارسة الوصاية الفكرية المصادرة لحرية الإنسان, بينما الكيس الحصيف، فهو يتعاطى مع مغايره من خلال مبادئ ناظمة للمواجهة الفكرية، فهو يعتمد المنطق المدلل والحجة المبرهنة (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ).. (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا).
إن من أسوأ الإشكاليات التي نتجشم مكابدة عنائها أن كل واحد منا يريد من الآخرين أن يكونوا نسخة كربونية منه، فالأب يريد من أبنائه مشاكلته واقتفاء أثره في الشاردة والواردة والنسج على منواله في الدقيق والجليل, والمعلم لا يسمح للطلاب بالخروج عن خطه المعتمد، ورئيس المجموعة يربي من تحت يده على أولوية المنطق التماثلي المطلق, هذه الآليات التربوية لا شك أنها أفرزت ضرباً من العقليات الإستاتيكية التي لا تطيق الخلاف.. بل تضيق ذرعاً به.. وتتشنج من وجوده على نحو إلى اكتظاظ أجوائنا بحالات مكثفة من الصراع والخصام الداخلي.
العقلية الأحادية تعتقد أن ما في جعبتها من أفكار هي الحق المطلق الذي لا يسوغ لأحد التجافي عنه وإلا استحق النبذ والطرد, وكم من شخصية علمية لها وزنها جرى محاصرتها وإلغاؤها والتحريض على مقتها.. لا لشيء إلا لأنها نزعت نحو اجتهاد أوحى إليها به مكونها المعرفي العميق, وكم من فعالية فقهية جرى الشغب عليها لمجرد أن لها مساراً مغايراً في بعض التفاصيل الفقهية في إطار المذهب ذاته!.
إن كونك تعتقد بصوابية توجهك، وعدم صوابية التوجه الآخر.. هذا أمر طبيعي ومقبول بناء على مشروعية حق الاجتهاد.. لكن المحذور هو مصادرة حق الطرف الآخر في الاجتهاد، وتحسير فرص إبداء ما في حوزته من آراء.. والعقول الحدية لا تقف عند حد الإنكار القلبي فحسب، بل تستنفر طاقاتها للتعبئة ضد ذلك المُباين على نحو قد يقود إلى التشكيك في ديانته والقطع بسوء طويته، وأن ثمة مطامع دنيوية تحفزه لمباينة المستقر في الوعي العام.. إن الإفصاح عن فكرة مّا وضمن الضوابط المقننة شأن لا ينبغي الاختلاف فيه، فهو حق مكفول للجميع، ما دام في إطار مشروع، وليس ثمة مسوغ لاحتكاره من طرف مّا.. لأن هذا الاحتكار ليس إلا لوناً من الإرهاب الفكري الذي يمزق اللُحمة، ويكرس أبجديات الانقسام، ويقضي على إمكانية الثراء المعرفي.
إن العنف القمعي ليس خياراً إستراتيجياً حتى ولو كان في مواجهة الأطروحات الوالغة في التجديف العقدي.. إنما ينبغي أن تكون المواجهة ذات طابع علمي يتم من خلالها إثبات وهن الرأي الآخر وتجلية ثغراته وإثارة الأسئلة الحفرية حول مضامينه.. إن القوالب الإقصائية ليس بمكنتها عرقلة زحف الفكر المُباين.. بل على العكس فهي قد تخدمه ببعث الاحتفاء به ودفع أتباعه للتكتل حوله, وأدبيات الشريعة وأخلاقياتها تتحفظ على مثل ذلك النفي ولا تبرره بحال.
إذا رُمت الوقوف على مدى أُفق شخص ما، فخالفه في جزئية معينة.. ثم لاحظ آلية تعاطيه فإن كان لبيباً فسيبدي قدراً من التفهم والتقبل، وسيكون الحوار الهادي هو المركب الذي سيمتطي صهوته.. أما إن كان جاهلاً يعاني من داء الحمق فسترى شخصاً متأففاً متذمراً لجوجاً يعتمد على رفع الصوت وقوة حباله الصوتية.. وقد يأخذ بتلابيبك كردة فعل عكسية لشعوره بالإعياء والعجز عن المواجهة الحوارية المنضبطة والنائية عن الشخصنة.. اللغة الشتائمية والمهاترات التأجيجية هي لغة لا تسود إلا في أوساط السذج والبلهاء ولا تليق بذوي النُّهى.. وبيت القصيد: هو أن من الضرورة توجُّه إستراتيجيات الطرح الديني نحو توليد خطط تثقيفية تُعلي مستوى الوعي بالخلاف وشرح الآليات المثلى لممارسته وتحويله من منبع انقسام إلى مصدر للتلاؤم والصفاء الجمعي.
Abdalla_2015@hotmail.com