سيطر موضوع كارثة سيول جدة على الصحافة السعودية خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة، ودارت حول مسألة الفساد الإداري والمالي.. هذا بحد ذاته أمر بالغ الإيجابية، ولكن ثمة جوانب تكشف سلبيات في طريقة التناول الصحفي،
حيث طغت مقالات الرأي على أغلب أساليب التناول..
ويمكن فرز نوعين من هذه المقالات.. الأول وهو السائد يمثل مقالات الإعلان عن وجود فساد، ومن ثم ذم هذا الفساد بدرجة أصبح كثير من الكتاب يتنافسون في حدَّة ألفاظ الهجاء المؤثرة على عواطف القراء، بمثلما يتنافس الشعراء العرب في بلاغة الذم أو المدح.. وتحولت المنافسة إلى حراج مزايدة ولعبة في الصياغة والتعبير التي نتقنها نحن العرب، فالأكثر تأثيراً بالعواطف هو الحائز على البطولة والرضا الجماهيري.. ولستُ رافضاً هذا الأمر، بل على العكس أراه مهما لمواجهة الفساد بصورة عامة. لكن أن تكون طريقة التناول هذه هي السائدة، فذلك أمر به خلل، لأنها بالأساس تكتشف المُكتشف على حد تعبير الكاتبة إيمان القويفلي..
لقد سبق لمجلس الوزراء أن اعترف بوجود الفساد لدرجة استدعت إنشاء هيئة لمكافحته في القرار رقم 43 بتاريخ 1 - 2 - 1428هـ، ونشرت حيثيات ومبررات وأهداف ووسائل تطبيق هذا القرار لحماية النزاهة ومكافحة الفساد. وسبق ذلك خطوات شجاعة مشابهة كالمناداة بالمشاركة الشعبية في القرار والانتخابات الجزئية والاعتراف بوجود الفقر وضرورة علاجه، والشفافية ورفع سقف الحريات.. وقد دعا مجلس الشورى في سبتمبر الماضي إلى الإسراع في تشكيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد باعتبارها الآلية النظامية لتفعيل تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد.
إذن، ما فائدة كثرة تكرار الإعلان بأن هناك فسادا، وكأننا لا نعرف ذلك؟ صحيح أن لها فائدة في تنبيهنا وتذكيرنا، لكن ليس من الجيد أن تكون هي السائدة في تناول مسألة الفساد؛ لأنها تتحول إلى مجرد مقالات (فش خلق) وتنفيس سلبي إذا لم تصاحبها الطرق الأخرى في التناول، خاصة تلك التي تكتشف ما لم يُكتشف..
النوع الثاني من المقالات هو المقالات التحليلية التي تحاول تحليل أسباب الفساد ومآلاته.. فمنها من تحاول تحليل ما قبل الفساد والأسس الاجتماعية والتربوية والثقافية والإدارية التي تهيئ البيئة المناسبة للفساد.. ومنها من تحاول طرح أساليب مكافحة الفساد، وطرق التعامل معه بعد حدوثه.. إلخ. ورغم أن هذا النوع أهم كثيراً من النوع الأول إلا أنه للأسف يشكِّل نسبة قليلة من المقالات، قد لا تتجاوز عشرة بالمئة من المطروح..
على أن هناك أنواعا أخرى أهم من كلا النوعين، لكنها ضئيلة وليس بالسهولة العثور عليها طوال الأسابيع الثلاثة من تناول كارثة سيول جدة، رغم أنها العمود الفقري للعمل الصحفي.. وهي مقالات الرصد والكشف.. فمن النادر أن تجد كاتبا يفتح ملفات سابقة عن أحجام المناقصات الخاصة بتصريف السيول وتحديد الأحياء المرتبطة بها وفترتها الزمنية.. أو مقالة تحدد بالأرقام والإحصائيات ما تريد أن تصل إليه.. أو كاتباً يكشف عن معلومات جديدة، أو حتى يذكرنا بمعلومات مهمة سابقة طواها النسيان مرتبطة بموضوعنا..
ومن الأنواع النادرة التي قلما نجدها هو لقاءات وحوارات المكاشفة والشفافية التي تمت مع الخبراء والمختصين أو المسؤولين، حيث اتسمت أغلبها بالعمومية ولوم جهات غير محددة أو لوم أساليب إدارية وأنماط اجتماعية عامة، تصب في الأخير في التنفيس وتطييب الخواطر وتشتيت حق الضحية بين (القبائل)..
وأهم من كل ما سبق هو ندرة تقارير الشفافية والمكاشفة التي تسمي الأشياء بأسمائها دون مواربة وبلا كلام عام، على خلاف النوعين الأول والثاني اللذين يتسمان بالتعميم الفضفاض.. أقصد بذلك التقارير التي تكشف ما لا نعرفه، والتي يجتهد بها الصحفي المحترف للوصول إلى الملفات البيروقراطية والمناقصات والصفقات المختبئة وراء غبار الأرفف أو الأدراج المقفلة.. ولا أقصد هنا الاتهامات المجانية التي تقع تحت طائلة جناية القذف، ولا كشف أسرار خاصة ليست من حق العموم، بل أعنى الشفافية المسؤولة.. فضمن ما ذكره قرار مجلس الوزراء المشار إليه في وسائل تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد كفالة حرية تداول المعلومات باعتبارها مبدأ أساسياً في طريق الشفافية والمكاشفة.. الذي أكد أيضا على عدم التمييز في التعامل مهما كان المركز الوظيفي والاجتماعي للشخص، والعمل بمبدأ المساءلة لكل مسؤول مهما كان موقعه..
هذه الأنواع من العمل الصحفي الجاد التي قلما نجدها، حدت ببعض المراقبين أن يعلن فشل الصحافة الورقية في التعامل مع كارثة جدة، ومنهم الكاتب عبدالله بن بخيت الذي يرى أن سقف الحرية الذي تتمتع به الصحافة الإلكترونية شكَّل تهديداً صريحاً للصحافة الورقية.. فالصورة والصوت وسرعة الخبر وحرية الطرح تصب جميعها في مصلحة الصحافة الإلكترونية.. ويرى الكاتب أنه إذا استثنينا الرأي سنجد أن أضعف وسيلة إعلامية غطت أحداث جدة هي الصحافة الورقية.
نعم، لقد كان تناول كارثة جدة في الصحافة الورقية مجرد مقالات الرأي لا الخبر، ولا ما بين الملفات البيروقراطية من معلومات وأرقام مثيرة وثرية.. ولكن أيضا الصحافة الإلكترونية لم تكشف ما لا نعرفه، فاختلافها عن الورقية كان في الاستفادة من ارتفاع سقف الحرية في زيادة حدة التعبير العاطفي، ونقل أخبار خطيرة لكنها غير موثوقة، وطرح معلومات مهمة لكنها تفتقر للمصداقية.. أي بشكل عام كانت صحافة تفتقر للمهنية مقارنة بالورقية أو بالمرئية.. وقد غاصت الإلكترونية في طرح الآراء العاطفية المفطرة، وهذا أمر طبيعي نتيجة قسوة المناظر التي شاهدناها ومدى تأثيرها الحاد على عواطفنا ونتيجة ضعف المهنية..
صحيح أن العواطف أمر ضروري هنا، لأننا نتحدث عن مسألة إنسانية في المقام الأول، لكنها وحدها لا تفضي إلى عمل محدد بل إلى موقف نفسي عام قد يكون مجرد تنفيس، لأن سيطرة حدة العاطفة الانفعالية غالباً ما تكون عشوائية ومؤقتة، ثم تعود المسألة إلى سابق عهدها، فالعواطف لا يمكن أن تكون ملتهبة طوال الوقت؛ ولكن الخبر الذي يخبرنا ما لا نعرفه، والتقرير الذي يكشف لنا ما لا نراه.. مع الرأي المتخصص والتحليل النقدي واللقاء الحواري.. إلخ، كلها أنماط تفضي - مع العاطفة الإنسانية - إلى عمل إيجابي ملموس..
alhebib@yahoo.com