عندما نشرتُ في الخامس من ذي الحجة في هذه الصحيفة (وفي صحيفة البلاد.. بالتزامن معها والإذن منها).. مقالي: (ضريبة إعجاب طوعية).. تعقيباً على حوار سمو أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل الذي أجرته مع سموه صحيفة (الوطن) .
وذكرتُ بين ثناياه (أن أبناء جدة وسكانها في عمومهم.. وعندما يأتي الحديث على ذكر أحياء جدة العشوائية التي تستوجب معالجتها ودرء الأخطار منها.. إنما كان ينصب على أحياء مثل: غليل، والقريات، والثعالبة، والكرنتينة، وربما النزلة الجنوبية وحي كيلو ستة.. وربما حي قويزة الذي إذا دخلته لا تعرف كيف تخرج منه).. لم أكن أخط ب(الودع) أو أضرب الرمل حتى أتنبأ بحدوث كارثة من هذا العيار الثقيل وهي تحل بهذا الحي قبل ثلاثة أيام من وقوعها، ولكنني كنت - على وجه الدقة - أستعيد (ذاكرة) أبناء المدينة وسكانها، ومعرفتهم بأحياء جدة العشوائية وأين هي..؟ ومن هي..؟ في مدينتهم.. قبل أن تلتبس عليهم بمفهوم (التطوير) العمراني والمطورون الاستثماريون من القطاع الخاص، الذين قدموا لهذه (المهمة) التطويرية بشهية وحماس ليسا بمستغربين..؟!
ولذلك لم أكن سعيداً برسالة الإشادة بما كتبت، والتي تلقيتها على هاتفي بعد تسعة أيام من نشر المقال.. وهي تقول (أحزان جدة.. تصدقك)، وكان قد مر على عاصفة السيول التي اجتاحت (الحي) من شرقه ستة أيام بلياليها.. تاركة وراءها هلاكاً ودماراً بغير حدود.. وهي تنصب في القلوب وفي الصدور حرقة وأسى، وتملأ العيون بدموع تبكي أطفالاً وشباباً في ميعة الصبا.. ورجالاً ونساءً في عنفوان أعمارهم وآمالهم.. وشيوخاً يستبطئون أيامهم طمعاً في المزيد من (خير الزاد)!!
فمن أين تأتي (سعادة) الاستشراف هذه التي أرادت أن تهنئني بها تلك الرسالة الهاتفية وسط هذا الكم الهائل من الأحزان والنحيب والأنين..؟ وكيف كان لها أن تصل إلى قلبي وعقلي بين حطام المنازل ومخلفات المتاجر وركام السيارات وأطنان الوحل وتلك المياه المحيطية التي لا أدري من أين ولا كيف جاءت إلى (حي قويزة) الذي لم أكن أعلم إلا بعد (الكارثة)، ومطالعتي ل(شهادة) الزميل العزيز الأستاذ بخيت طالع الزهراني - التي كتبها ونشرها في ثلاث حلقات بصحيفة البلاد وروى فيها قصة ساعات الموت الخمسة التي عاناها الحي وأبناؤه وسكانه والمقيمون به في أدق عبارة وأصدق وصف - بأنه ليس حياً واحداً.. وأنه يتكون من أربعة أو خمسة أحياء تمتد شرقاً بامتداد (طريق الحرمين) ومحاذاته إلى منتهاه.. وتتواصل جنوباً إلى حي (أبرق الرغامة) أو طريق مكة القديم، هي: قويزة بقسميه المخطط والعشوائي، والصواعد والحرازات والراية، وأن الحي أو هذه الأحياء مجتمعة تقع برمتها في بطون عدد من الأودية كوادي قوس ومريخ وغيرهما.. التي تسيل بين الحين والآخر، وهو ما لم أكن أعلمه أو يعلمه غيري من أبناء جدة وسكانها والمقيمين بها، ف(ذاكرة) جدة عن (عشوائياتها) التي كنت أستحضرها.. إنما كانت تتحدث عن العشوائيات في صورتها (التقليدية) المتمثلة في نقص أو انعدام تخطيط الحي، وغياب الحدائق، والميادين الواسعة التي تتماثل مع مثيلاتها الجميلات في بقية أحياء جدة، وقلة الشوارع العريضة والمستقيمة المتصلة ببقية شوارع المدينة الرئيسية.. إذ لم يكن بين مفردات ذاكرة المدينة في تلك الأيام حكاية (الأودية) أو (بطونها) وهذه السيول التي يمكن أن تعبرها ب(سلام) أو ب(دمار) هائل كالذي حدث، ولعل آخر ما يذكره أبناء جدة وسكانها والمقيمون بها.. هو إنشاء (قناة تصريف مياه السيول) التي تمتد من شرق المدينة إلى شمالها وصولاً إلى غربها، والتي كان بناؤها - قبل ربع قرن أو يزيد - أقرب ما يكون إلى المفاجأة غير المتوقعة لهم.. والتي لم تمتلئ بالمياه أو ببعضها طوال تلك السنين، حسبما يذكرون وأذكر..!!
* * *
لقد كنت في ذلك اليوم أتنقل من شارع إلى آخر من شوارع شمال جدة وغربها.. بحثاً عن شارع ينفذ بي إلى شارع (علي جميل) الموازي جنوباً لشارع (حراء).. حتى أصل إلى منزل شقيقي لأتناول معه طعام غداء ذلك اليوم، ولكنني.. لم أتمكن، فقد كان ل(شمال) وغرب جدة نصيبهما من أمطار ذلك اليوم.. وتجمعاتها التي اعتادها المواطنون والمقيمون في بعض الشوارع والميادين، وإلى الحد الذي يصبح معه عبورها.. مغامرة لا يقوى عليها غير الشجعان من قادة العربات والمركبات، ولأنني لست منهم.. فقد هاتفت شقيقي.. معتذراً عن الحضور، مؤثراً العودة إلى منزلي بذات الحذر.. واثقاً بأنه وبعد أن يتوقف المطر ستقوم (وايتات) الأمانة - كالعادة - ب(شفط) المياه من تجمعاتها في الشوارع الرئيسية الهامة، ثم ما يليها من حيث الأهمية.. وترك بقيتها لعوامل الشمس والهواء والتبخر لتقوم بتجفيفها.. فيفرح الجميع بعد ذلك ب(تغيير) الطقس الذي عادة ما يصحب نزول المطر أو يليه، فقد اعتاد أهل جدة وسكانها والمقيمون بها على هذا (السيناريو) الدائم، أما حكاية شبكات (مجاري) وتصريف مياه (أمطار) التي تعرفها مدن العالم.. بل وقراه، فقد غدت عندهم ك (الأسطوانة) المشروخة التي يسمعون (خروشاتها).. بين حين وآخر دون أن يروا شيئاً منها على أرض الواقع، إذ إن أول ما رأوه من مشاريع حكومية خلال العشرين عاماً الماضية هو مشروع جسر الملك عبدالله، وتطوير كورنيش الحمراء، وإقامة حُديقة التحلية أيام أمينها السابق عبدالله المعلمي.. فكان طبيعياً ألا يدور بخلدي في تلك الساعة، أو في غيرها.. أن هناك سيولاً جارفة ستقبل من الشرق نحو (حي قويزة) وما جاوره.. وأنها ستلتهمه بما فيه ومن فيه، فتجعل من يوم سكانه والمقيمين فيه.. يوماً أسود لم يعرفوا مثله طوال حياتهم.. أو أنها ستتقدم إلى طريق الحرمين، بل وتتجاوزه إلى حي الجامعة فأرض المطار القديم.. فلا تترك خلفها إلا يباباً.لقد حولت تلك السيول.. صباح الوقفة في جدة إلى دمعة في العيون، وشهقة في الصدور، وكآبة في النفوس، وهي تجعل من عيد أهلها وسكانها والمقيمين بها ومن جاءوا لزيارتها.. عيداً بلا فرح. عيداً بلا بهجة. عيداً بلا بسمات، وقد كنت من بينهم.. وكنت مثلهم.
* * *
لقد غطى الإعلام بإذاعاته، وصحفه، وقنواته الفضائية.. أحداث الفاجعة المفاجئة ساعة بساعة.. ويوماً بيوم، وبكل تفاصيلها العامة والخاصة ومفرداتها الإنسانية.. حتى علم القاصي والداني، وعاش الوطن بشماله وجنوبه، ووسطه وشرقه.. تفاصيل الجرح والمأساة التي أحاطت بشرق جدة، وتنادى المخلصون من أبنائه لمساعدة آلاف الأسر التي انتُزعت من منازلها وتبعثرت بين منازل الأهل والأصدقاء وشقق الإيواء.. وأصبحت ممتلكاتهم القليلة أو الكثيرة التي كانوا راضين وقانعين بها أثراً بعد عين، ولم يتخلف الكتاب والأدباء والشعراء.. عن التعبير عن مشاعرهم، وأحزانهم ودهشتهم مما حدث.. بينما كرس البعض أقلامهم وأفكارهم في البحث بجرأة وشجاعة عن الجهات الوزارية التي كانت ب(بيروقراطيتها) واستخفافها وراء الكارثة ك(وزارة المالية) التي كشفت التقارير (عن رفض وزارة المالية المتكرر اعتماد الكثير من المشاريع التي تتقدم بها أمانة مدينة جدة، والتي تركزت على إزالة الأحياء العشوائية وتنفيذ شبكات الصرف الصحي وتصريف السيول)، و(وزارة الزراعة والمياه) في (تقاعسها عن إقامة السدود الضرورية) كما ذكر ذلك الأستاذ فهد إبراهيم الدغيثر في مقاله بصحيفة الوطن عن (علاقة وزارة المالية في كارثة جدة) في عدد الاثنين الماضي 20 ذو الحجة 1430ه.. وأكده الدكتور عبدالله دحلان في مقاله في ذات اليوم بصحيفة الوطن، وفي العدد نفسه (قصور الاعتمادات المالية أحد أسباب تأخر تنفيذ المشاريع بجدة)، يضاف إليهما مقال الدكتور علي عدنان عشقي عن تجربته ومعاناته الشخصية في سبيل إيجاد حل لمشكلة (بحيرة المسك) التي ماتزال تهدد مدينة جدة ليس بالتلوث.. ولكن أيضاً بصورة قد تتشابه مع كارثة السيول التي اجتاحت حي قويزة وما جاورها، وتخطتهما غرباً.. وإلى قلب مدينة جدة..!!ومعذرة.. إن فاتني استرجاع الكثير من المقالات فلست أدّعي.. أنني قارئ لكل الصحف.. بل إنني أكتفي عادة بقراءة ثلاث إلى أربع منها، إلى جانب الاستماع إلى بعض الإذاعات غير العربية، ومتابعة برامج بعض القنوات التلفزيونية الإخبارية!
* * *
على أن الذي فاق كل هذه التغطيات.. وسبقها توقيتاً وأهمية، هو: الأمر الملكي السريع والحاسم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين.. ملك القلوب والإنسانية عبدالله بن عبدالعزيز بعد أربعة أيام من وقوع الكارثة.. وقبل أن يغادر ملايين الحجاج (منى) في ثالث أيامهم، فلم يشغله واجبه ومسؤولياته نحوهم.. عن واجبه ومسؤولياته نحو أبناء وطنه.. فكان قراره في مواجهة الكارثة بلسماً للجروح، وشفاءً للنفوس.
ومع وضوح الأمر الملكي في عمومه توجهاً وغاية.. فقد خصص في بنده الثاني بما نصه: (ثانياً: تقوم اللجنة - حالاً - بمباشرة المهمات والمسؤوليات الآتية بتفرغ كامل:
1 - التحقيق وتقصي الحقائق في أسباب هذه الفاجعة، وتحديد مسؤولية كل جهة حكومية أو أي شخص ذي علاقة بها.
2 - حصر شهداء الغرق والمصابين والخسائر في الممتلكات.
3 - على وزارة المالية تعويض المتضررين في ممتلكاتهم وفقاً لما تنتهي إليه اللجنة).
كما خصص في بنده الثالث.. ما نصه: (ثالثاً: على وزارة المالية - حالاً - صرف مبلغ مليون ريال لذوي كل شهيد غرق، أكرمه الله بقول النبي صلى الله عليه وسلم (والغريق شهيد) على ضوء ما يرد للوزارة من اللجنة المشار إليها عن الأسماء المحصورة من قبلها).
ومع أنه تم حصر الشهداء الغرقى بـ(118) شهيداً، والمفقودين بـ(48) مفقوداً، والعقارات بـ(8092) عقاراً، والمركبات المتضررة بـ(7143) مركبة، إلا أن (موظفي المالية يمارسون بيروقراطية أتعبت الناس وأخرت صرف إعاشتهم).. أما التعويضات، فلم يستلم ذوو الغرقى (حتى الآن قرشاً واحداً) كما ذكرت صحيفة البلاد يوم الأحد الماضي (العدد 19327).. بل وحتى نهاية يوم الثلاثاء الماضي
(ساعة كتابة هذا المقال)..!!
وإذا كنت على ثقة من أن حبال اللجنة ستطول.. في تقصيها للحقائق نظراً للصعوبات والمشاق التي ستواجهها، فإن ذوي الغرقى والمتضررين ممن فقدوا منازلهم وممتلكاتهم ووسائطهم.. لا يحتملون إطالة أو تمطيطاً من أي درجة وسط التعاسات التي حطت عليهم، وأحاطت بهم عنوة منذ أربعائهم الأسود، ويكفي «قويزة» وسكانها والمقيمين بها.. نسيان الماضي وتهميشه ومراراته.
* * *
وتبقى كلمة لذلك الخطيب - هدانا الله.. وإياه - الذي قال: إن صدقت وسائل الإعلام.. بأن ما أصاب (قويزة) وسكانها وبينهم صالحون وفقراء وبسطاء هو (غضب من الله).. فمن أخبره بذلك؟!ولكن صدق من قال: (رُب كلمة قالت لصاحبها) دعني!!