هنا في العاصمة الرياض، ينتظم عقد عدد كبير من أدباء ومبدعي المملكة، حيث يبدؤون صباح غدٍ الاثنين، جلسات مؤتمرهم الثالث تحت عنوان: (الأدب السعودي.. قضايا وتيارات).
|
المؤتمر الأدبي اللافت، يقام برعاية سامية من خادم الحرمين الشريفين، الملك (عبد الله بن عبد العزيز) -أيده الله بنصره- وتنظمه وزارة الثقافة والإعلام، وهي تبدو في وضع متحفز، لتحقيق المزيد من التجديد والتطوير، وتقديم الكثير من المزايا، للأدب والثقافة والإعلام، وتسعى لإشراك أكبر عدد ممكن من أدباء المملكة ومثقفيها، في بلورة مستقبل أفضل، لأدب المملكة وثقافتها، ولهذا.. جاءت عناوين الدورة الحالية لهذا المؤتمر الذي طال انتظاره، مفعمة بالمواضيع التي تنطلق من الأدب كمحور أساس، لتشمل: (الانتماء الوطني، وثقافة التسامح، والمؤسسات الثقافية، ومناهج التعليم، ووسائل الإعلام، والإبداع الجديد والإلكتروني، ثم أدبنا خارج الحدود، والأدب السعودي المترجم، والدراسات السعودية).
|
من المهم أن نتابع ما يدور في جلسات المؤتمر؛ ابتداءً من صبيحة الغد إلى يوم الخميس، ونعرف ما سوف تسفر عنه هذه الجلسات من توصيات، ونحن كأدباء ومثقفين، يحدونا الأمل حقيقة، أن نرى هذه التوصيات، وقد ترجمت إلى برامج عملية على أرض الواقع، فلا تبقى حبيسة الضبائر، عشر سنوات أخرى.
|
إن حال أدباء المملكة، لا يختلف كثيراً عن أحوال أدباء الوطن العربي كافة، وهم جميعاً امتداد لما كان عليه أدباء العربية في عصور مضت.. إن نظرة متمعنة فيما كتبه أدباء سعوديون قبل عقد هذا المؤتمر، يكشف عن آمال وتطلعات كثيرة، تعتلج في صدور أدباء وشعراء ومثقفين ومبدعين وفنانين وسواهم من أرباب هذا الفن، ومن أقلها وأدناها، العناية بإنتاجهم طبعاً ونشراً وتوزيعاً، وفتح قنوات التواصل بينهم، والنظر إليهم على أنهم شريحة اجتماعية، يعتريها ما يعتري غيرها من فقر وحاجة ومرض وعسر ونحوه، وقد قرأنا عن حالات كثيرة لأدباء ومبدعين سعوديين، اضطروا إلى بيع كتبهم، أو ضيقت عليهم الديون، حتى ضاقت بهم دنياهم، أو انتحر بعضهم هرباً من واقعه المؤلم، أو أخذ البعض الآخر يتنقل من شقة لأخرى، وطلبات المالكين تلاحقه في الشرط والمحاكم، وليس هناك من رابطة تجمعهم وتدافع عنهم، أو تسعى لتفقدهم والتخفيف من معاناتهم.
|
ليس بدعاً أن حِرفة الأدب في حياة أدبائنا هي حِرفة ثانوية لأصحابها، فهذه كانت حال من سبقهم من أدباء العربية منذ أزمان بعيدة، وليس عيباً كذلك، أن يحترف الأديب حِرفة أخرى غير حِرفة الأدب، تدفع عنه غائلة الجوع، لكن أن تتحول حِرفة الأدب ذاتها إلى حُرفة، فهذا ما هو موضوع شكوى الأدباء من أزمنة بعيدة وما زال، والسؤال: هل باستطاعة مؤتمر الأدباء الثالث غداً، الفصل بين حِرفة الأدباء وحُرفتهم..؟!
|
الحِرفة - بالكسر - كما عرَّفها الأدباء أنفسهم، هي الصناعة والمهنة، يحترفها الإنسان ويتكسب منها، والحُرفة (بالضم)، هي الحرمان والبؤس وسوء الحظ، ومن ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لحُرفة أحدهم أشد علي من عينته).. وقول الشاعر جحظة البرمكي:
|
ما أنصفتني يد الزمان ولا |
أدركتني (حُرفة الأدب) |
وهو الذي يقول بعد أن ذكر والديه:
|
ما تركا درهما أصون به |
وجهي يوماً عن ذلة الطلب |
وقيل في رثاء عبد الله بن المعتز، الذي بويع بالخلافة، فلم يتم له الأمر إلا يوماً واحداً:
|
لله درك من ملك بمضيعة |
ناهيك في العلم والعلياء والحسب |
ما فيه لو ولا ليت فتنقصه |
وإنما أدركته (حُرفة الأدب). |
|
مالي خملت وضاع مكتسبي |
هل أدركتني (حُرفة الأدب)..؟! |
ويذكر لنا تاريخ أدب العربية وأدبائها، أن الفقر كان سمة من سمات الأدباء والمبدعين، وقلة منهم اكتفت أو أثرت، وعاشت كثرة منهم على الكفاف، وسعى البعض منهم -كابن زريق البغدادي - فدفع حياته ثمناً لسعيه، وباع بعضهم كتبه أو أحرقها احتجاجاً على فقره وعدم استفادته من كتبه، فابن حيان التوحيدي، قيل إنه أحرق كتبه، ومات بطريقة أقرب إلى الانتحار منها إلى الموت العادي. وكتب ابن حيان إلى أبي الوفاء البوزجاني رسالة يدعوه فيها إلى انتشاله من الفقر فيقول: أيها الشيخ.. خلصني من التكفف، وأنقذني من لبس الفقر، وأطلقني من قيد الضر.. إلى أن يقول: اكفني مئونة الغداء والعشاء، إلى متى التأدم بالخبز والزيتون، قد والله بحّ الحلق، وتغير الخلق.. الله.. الله في أمري.. الخ.
|
وفي عصر الانحدار، عبّر أحد الشعراء عن غضبه لما آلت إليه حال الشعراء في عصره، فبالشعر كان يرجو الكلاب، وحين صار جزاراً ؛ صارت ترجوه الكلاب..!
|
ودفع الفقر بكثير من شعراء العربية وأدبائها في العصر الحديث، إلى المهاجر البعيدة، وهي ظاهرة دالة على بؤس المبدعين وتعاسة مجتمعاتهم التي تفتقر إلى الذائقة الأدبية والشعرية. يقول إلياس فرحات في (شقاء الغربة):
|
طوى الدهر من عمري ثلاثين حجة |
طويت بها الأصقاع أسعى وأدأب |
أغرّب خلق الرزق وهو مشرّق |
وأقسم لو شرّقت راح يغرّب |
ومما هو معروف وملموس، أن ليس هناك أديب أو مبدع، إلا وهو إلى الفقر أقرب، أما الغِنى والثراء الذي يمكن أن يوسم به شاعر أو أديب وباحث، فهو غِنى معنوي، وثراء شهرة وصيت لا أكثر. هذا شاعر الكرنك (أحمد فتحي)؛ يقول في هذا المعنى:
|
ماذا أفدت بأشعاري وروعتها؟ |
سوى علالة تخليد لآثاري |
وما الخلود بمأثور لعارية |
غير الخسيسين من ترب وأحجار |
يا ضيعة الفن إن لم تمتلئ يده |
من درهم يكفل الدنيا ودينار |
إن أهم منجز منتظر من هذا المؤتمر، هو رفع حِرفة الأدباء، وخفض حُرفتهم، أو شطبها من حياتهم إلى الأبد. ما قيمة أدب سعودي، في بلاد غنية ثرية، يتخلق في ظروف محاطة بالحُرفة والحُرقة..؟
|
|