عندما زار الوفد الثقافي القادم من فلسطين (الرياض) لإحياء أسبوع القدس عاصمة للثقافة العربية الأسبوع الماضي، كنت حريصة عند لقائي بعضواته، أن أستمع من أفواههن لشهادة حية طازجة منبثقة من أتون الصراع والمواجهة، كنت أحاول أن أتقصى ما هو مُوارى وبعيد عن نشرات الأخبار وآلات التصوير، ومتصل بالتفاصيل التي تحتشد في عمق المعاناة الإنسانية لشعب يعيش تحت نير الاحتلال لأجيال طويلة.
فكان المشهد يخرج من الأفواه معتماً غامقاً، لا يرون من خلاله انفراجة إلا بانتفاضة فلسطينية ثالثة، تستطيع أن تعيد القضية الفلسطينية إلى نقاء وسخونة وسمو تاريخها، بعد أن تآكلتها الصراعات الداخلية وفشل لديها مشروع الدولة.
وأعتقد هنا بأن جزءاً من فشل مشروع الدولة بجميع قوانينها وأنظمتها ودستورها، يعود إلى قصور وعدم نضج (جمعي) في ما يتعلق بمفهوم الدولة، فالوعي ما زال عشائرياً ينضوي تحت الأب الكبير الرمز، فبعد أن رحل ياسر عرفات ظهر الصراع بين فتح وحماس على السطح بقوة، وأنا متأكدة من أنه في حال نفذ الرئيس الفلسطيني (محمود عباس) تهديده بالانسحاب من السلطة فستنقسم السلطة نفسها إلى أحزاب متقاتلة متصارعة في ما بينها لغياب الأب الكبير، فالولاء في عموم العالم العربي ما زال للنظام البطريركي الأبوي وليس لمفهوم الدولة.
ضمن عضوات الوفد كان هناك د.وداد برغوثي، وهي أكاديمية وباحثة في جامعة بير زيت، وليس هذا فقط، بل هي أديبة وشاعرة، وتكتب الرواية، كانت شخصية هادئة بصوت منخفض، ولكن عندما تبدأ في الحديث فإننا لا بد أن نفسح حيزاً لنهر البطولة والصمود الذي ينساب من فمها هادئاً لكنه يحتشد بالشخوص والحوادث والتفاصيل الأسطورية لشخصيات بطولية قد نقرأ عنهم في الروايات فقط، أو لربما يكونون موضوعاً لفيلم وثائقي حول القضية.
فهي ابنة لأسير 11 عاماً، وزوجة لأسير لمدة 8 أعوام، تشرف وترأس عدداً من الجمعيات المعنية بتأهيل وتدريب الطلاب في المجال الصحفي والإعلامي، وقد تعرضت للاعتقال والاستجواب عدة مرات، وفي إحدى المواجهات مع جنود من الجيش الصهيوني، تعرضت لثلاثة كسور في الجمجمة ظلت آثارها تنعكس عليها إلى اليوم، وكما تتجوهر الماسة من رحم النار، أبرقت وأرعدت وداد البرغوثي فكانت أُماً وأكاديمية وأديبة لها عدد من المؤلفات مثل رواية تل الحكايا، وذاكرة لا تخون, والوجوه الأخرى.. وفوق كل هذا فهي مناضلة صامدة تقول: لم أعد أعرف الخط الفاصل الذي يفصل بين حياة يومية عادية، ويوميات امرأة مغطسة بماء النضال والصراع والمواجهة اليومية المستمرة في جميع تفاصيل الحياة، حينما تنتهي من عملها في رام الله تعود إلى حقول الزيتون في قرية (الكروة) المجاورة لتستعد لمواسم الحصاد.
وداد برغوثي وتل الحكايا الذي تركته بيننا أشعل كل ما فتر وباخ في أعماقنا، وأطلقت سراح ما دجنه التعود والإحساس بالعبثية، واستعادت ماء النقاء الذي دنسه حبر الشعارات وزعيق الساسة.
هل كل نساء الأرض المحتلة يشبهن وداد؟ وهل كل نساء الأرض يعين عمق وقوة ومتانة روح الصمود والتحدي في أعماق النساء؟