التفاوت في التوجُّهات والتباين في المسارات، شأن طبيعي وقضية قدرية كونية ناجمة عن تلوّن زوايا النظر ودوائر الاهتمام، وتنوّع المنطلقات القرائية ومناطق التركيز، كما أنّ للتكوين الذهني والطبيعة الشخصية، وتباين المتبنيات البيئية أثراً لا ينكر في هذا الشأن.
تلك الحقيقة لازالت غائبة عن بنية الوعي في كثير من السياقات التي يستحيل فيها الخلاف إلى لون من المعارك الصراعية، حيث يحتدم النزاع وتتعمّق التجاذبات ويبيت منطق الإلغاء وإسقاط الذوات وإهدار الحقوق، هو المسيطر في هذا المجال، والباعث على ذلك يدور بين الدوافع المصلحية والجهل المركّب، حيث الجهلاء دائماً ما يسيئون بتصرفاتهم على نحو يدفع فيه المجتمع الثمن باهظاً من وحدته المتناغمة. الجاهل عندما ترتفع درجة الحماس لديه يتصرّف انطلاقاً من عاطفته المشبوبة دون تقدير للأبعاد المآلية. إنّ من الطبيعي أن يعتنق الإنسان فكرة معيّنة أو ينحاز إلى خط مدرسِي معيّن، ومن الطبيعي أيضا أن يذيع ما يراه ويجعل منه مادة للحوار، ويُنظّر له إذا كان في حدود الإطار الإسلامي الواسع، ولكن المحظور هو اقتياد الناس بالعصا الغليظة أو القبضة الحديدية، واستخدام أساليب الهيمنة، وتعميق الأبعاد الوصائية على الغير، ومصادرة حقوقهم في التفرد، إنّ هذا هدف سوف تُضني مطاردته. والقراءة الواعية لنصوص الوحيين تُسفر عن منظومة من القيم التي تؤكد على التعاطي بالتي هي أحسن مع المخالفين في الآراء، ومهما تعالى احتدام الخلاف، إلاّ أنه ليس مدعاة للصراع والخصومة، بل سيظل محكوماً بأخلاقيات التوقير.
كونك تعمل على بث أفكارك وتوسيع نطاق اعتناقها من خلال التفاعل الحواري الذي يستثير العقول، مطلبٌ جوهري، ومن خلاله يتخلّق ضرب من الحراك الفكري الذي يقضي على الركود، ويفني حالات الجمود بكافة صورها وهذا هو شأن العقلاء.
أما الجاهل عندما يقتنع بفكرة معيّنة، حتى ولو لم تتمتع بالقسط الجيد من الجاذبية المعرفية، إلاّ أنه يتشكّل بينه وبينها تلاحم عضوي، ولذا فإنه يُكرِه غيره ومَن تحت يده على الالتزام بها، على نحو يجري فيه انتهاك إرادة الإنسان في أعمق دوائرها.
الجاهل في كثير من الأحيان يحكم عليك ويشن عليك حرباً شعواء، ويطلق عليك نعوتاً جائرة، حتى ولو لم يكن بينكما خلاف، فسوء فهمه لمغزى منطوقك أوهمه بأنّ ثمة خلافاً مّا! وبناءً على هذا التوهُّم والفهم السقيم ينال منك، بناءً على تصوُّر غير دقيق رسمه عن توجُّهك الذي هو أيضاً ليس بالضرورة أن يتكئ على ذات التقنية التي هو يعتمدها.
تلك الشريحة تجيد لغة الانفعال لا الفعل، وهي أيضاً لا تجيد اللغة الحوارية العلمية الراقية.
تهافت قدراتها العقلية لا يمكنها من الحوار، فالحوار يُرهبها، لأنه يكشف عجزها ويعريها أمام ذاتها ويجليها على حقيقتها، تلك الحقيقة التي يتم التكتُّم عليها من خلال استخدام اللغة الشتائمية، واعتماد الألفاظ النابية التي لا تليق بالعقلاء، وتداول نوع من الاتصال القائم على التحقير المتبادل.
هذا التعامل العنجهي مع المخالف، نجد جزءاً من معالمه تتجلّى في ساحات الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، حيث نلاحظ أنّ ثمة معارك حامية الوطيس تدار من قِبل أسماء مستعارة، تتعاطى الخلاف بآليات مشوّهة وبقوالب في منتهى الإقصائية ليس ثمة فيها مجال للتواصل المعرفي الخلاّق! إنه لا يسوغ أن تتحوّل ساحاتنا إلى منابر للتحريض وإذكاء الكراهية وقدح زناد التشرذم عبر ثنائيات التعظيم أو التقزيم، والشروع في تجاذبات هوجاء لا تنجح إلاّ في تمزيق المجتمع وتدفق موجات من الغضب في شرايينه، على نحو لا يفضي إلاّ إلى استنبات أبجديات انقسامه، وإشغاله عن مواجهة تحديات الهيمنة الأجنبية ومجابهة محفزات الانحطاط الحضاري، وإنما يفترض الاحتفاء بالتنوّع داخل إطار الوحدة، إذ لولا ذلك التنوّع لما توفر لنا ذلك الزخم الفقهي الملوّن والفروقات الملحوظة بين المؤسسات الفقهية، ولا المدارس اللغوية التي أثرت الساحة؛ لولا ذلك التنوّع الذي يمارس كقيمة ثقافية لما تنعّمنا بمذاكرة المناهج التفسيرية، ولا أدلة استنباط الأحكام، ولم يكن بإمكاننا الإفادة من تلك البحبوحة التي تتميّز بها الشريعة التي بفعل رحابتها تجاوزت حدود الزمان وعبقرية البقعة المكانية.
Abdalla-2015@hotmail.com