Al Jazirah NewsPaper Sunday  22/11/2009 G Issue 13569
الأحد 05 ذو الحجة 1430   العدد  13569

دفق قلم
وأذِّن في الناس بالحج
عبدالرحمن بن صالح العشماوي

 

يا له من أمرٍ عظيم يأمر به الله عزَّ وجلَّ خليله إبراهيم عليه السلام، ويا له من حدثٍ جليل سيظل معلماً بارزاً من معالم هذا الكون إلى أن يأذن الله بزوال هذه الأرض بعد زلزلتها الشديدة كما وصفها مَنْ خلقها في أول سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}.

نعم أمر عظيم، يتكرر كل عام، مؤكداً أن أذان إبراهيم عليه السلام قد بلغ الآفاق حين أطلقه منفذاً أمر ربه، ووصل إلى مسامع البشر في ذلك الوقت بالصورة التي قدرها الله سبحانه وقضاها.

{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} يقول ابن كثير في تفسيره: ذُكر إن إبراهيم عليه السلام قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل له: نادِ وعلينا البلاغ، فقام إبراهيم على مقامه الذي كان فيه، وقيل: بل قام على الحجر (حجر إسماعيل) وقيل: على الصفا، وقيل: بل وقف على قمة جبل أبي قبيس المطل على الكعبة، وقال: يا أيها الناس.. إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه. فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر أو مدر أو شجر، ومن كتب الله أن يحج إلى يوم القيامة، وكانت إجابة جميع الكائنات (لبيك الله لبيك).

ثم يقول ابن كثير: هذا مضمون ما روي عن ابن عباس، ومجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحدٍ من السلف - والله أعلم - وقد أوردها ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم مطوَّلة. وفي قول ابن كثير هذا دليل واضح على أمانته ودقته في النقل؛ فهو بدأ برواية ما ورد عن طريقة نداء إبراهيم عليه السلام، ومكان وقوفه حينما نادى، وكيفية وصول ندائه إلى آفاق الدنيا، مستخدماً الفعل المبني للمجهول (ذُكِرَ)، ثم أتبعه وهو ينقل تفاصيل ما ذُكر بالفعل المبني للمجهول (قِيْل) و(يُقال)، وأكد ذلك بقوله: (هذا مضمون ما روي عن ابن عباس إلى آخره...) ويا لها من أمانة ترفع درجة الثقة إلى أقصاها في أولئك الحفاظ الأجلاء الذين سجَّلوا لنا أحداث تاريخنا وسيرة نبينا وسير الأنبياء من قبله - عليهم السلام جميعاً - بأدق عبارة، وأدق رواية، وأصدق أسلوب.

لقد أذَّن إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج تنفيذاً لأمر ربه سبحانه وتعالى، وأطلق دعوته المباركة، ونداءه الجليل - بلا شك - وبلغت تلك الدعوة بالحج كل من كان على وجه الأرض في ذلك الوقت، وقامت الحجة على بني آدم في كل زمان بتلك الدعوة، وذلك الأذان، وتحققت النتيجة، فأصبح الحج إلى البيت الحرام عبادة متواصلة لا تنقطع بإذن الله الذي فرضها على عباده.

لقد أكد الله جلَّ وعلا لنبيه وخليله إبراهيم أن الدعوة التي سيطلقها من مكة منادياً إلى الحج ستخترق كل الحواجز، وتطوي المسافات، وتجتاز الحدود، لا يردها بحر ولا بر، ولا سهل ولا جبل، وذلك بقوله تعالى بعد الأمر بالأذان بالحج: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، فالاستجابة بنص هذه الآية الكريمة في سورة الحج متحققة، ووصول النداء إلى الناس متحقق، وانطلاق المؤمنين بالله تعالى إلى الكعبة وبيته الحرام لأداء فريضة الحج حاصل، لا شك في ذلك.

هنا - أيها الأحبة - بالتأمل في هذه الآية الكريمة تظهر لنا عظمة خالق هذا الكون، ومبدعه، ومدبره، المحيط بكل شيء فيه، كما تظهر لنا عظمة الدين الحق الذي يربطنا بالله عزَّ وجلَّ ربطاً قوياً يملأ قلوبنا باليقين والراحة والاطمئنان.

{مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، الفج هو الطريق، والعميق: البعيد، وهذا ما حدث منذ انطلاق نداء إبراهيم عليه السلام إلى اليوم، فنحن نرى هذه الأيام تلك الوفود من ضيوف الرحمن تأتي من كل فج عميق براً وبحراً وجواً؛ لترسم أمامنا هذه اللوحة المباركة التي لا نظير لها على وجه الأرض، ولتحقق لبلادنا المباركة (المملكة العربية السعودية) أن تقوم بأعظم وأكرم ضيافة على وجه الأرض، إنها ضيافة حجاج بيت الله.

سبحان الله العظيم على ما له من معجزات، والحمد لله الذي مَنِّ علينا بهذا الدين العظيم، وهذا التواصل الروحي الوثيق مع جميع الأنبياء والمرسلين.

إشارة

قوة الله قوة في مداها

تتهاوى الأعداد والقوَّاتُ


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد