أكرموا آل البيت:
قال أبو عبدالرحمن: هذا البَثُّ العلميُّ النفسي الأدبي الفني أرجو الله أن ينفع به دنياً وآخرة، وكذلك ما تعلق به من ذُيول.. ولقد أخذ مني وقتاً كبيراً وأنا في إِثْرِ مرض يتجدَّد ما بين 2-7-1430هـ و23- 10-1430هـ لم أَنْقَهْ منه إلا قريباً (وذلك خبر لا شكوى)، وكنت أعمل في غيره عن طارش من الطيور وفد من الشام، وحلَّ في بلدي، فأُعطي رعوية سعودية، ولا يزال والده سوري الجنسية، وكان منتسباً إلى جماعة من آل عقيل بشقراء أهل (القُطْعَة) وسط البلد، ثم زحف إلى أبناء عمي الأدنين، ثم علَّمهم ما لم يعلموه من التزوير والزعم الكاذب أنه نقيب آل عقيل الأشراف في نجد، وهذا كذب ليس عندنا نقباء ألبتة، بل نحن من عباد الله الضعفاء، بل لا تعرف المنطقة الوسطى مهنة النقيب ألبتة، والنقابة في مثل الحجاز إرث يستند إلى سجلات ضبطٍ من نقيب سابق؛ وإنما أحدث هذا الوافد فتنة، وربما كانت له أهداف غامضة.. وهو استخفَّ بعض ضعفاء العقول من آل عقيل فأطاعوه، والمنطقة الوسطى لا تعرف في كل أُسَرِها بالإجماع شيئاً اسمه نقابة.. ولقد ردعته في الرد على الكتاب الأول المزوَّر، وإذا به يتجدَّد بتزوير آخر ، ووراءه تزوير ثالث، وقد أراد السفهاء صدِّي عن دحض تزويره ورضاهم به بإرسال أحد أبناء عمي إليَّ يبلغونني تهديدهم لي بالضرب.. والجعلان أحقر من ذلك، وليتهم يخبرونني عن الموعد لأنام لهم عند الباب، ولن أخرج لهم مثل ابني عبدالوهاب السبع الخادر، وكم عندي من أمثال عبدالوهاب.. ولقد اتصل بي جمهور آل عقيل بالوسطى (وهم العقلاء الأخيار) وغيرها يتظلمون من افتراء الوافد، ويستنجدون بزعماء الأشراف معلنين براءتهم من النسب المزوَّر، داعين إلى إكرام آل البيت وحفظ نسبهم.. المهم أنني إن شاء الله مصمم على فضح تزوير الوافد، وتسفيههم ببيان ضعف عقولهم باتباعه، ومحاربتهم لشرع الله المكفر من انتسب إلى غير أبيه.. وكنت أعمل في (أكرموا آل البيت) على مهلٍ وبتعب؛ لما أعانيه من إجهاد مرضي، ثم انثال عليَّ موضوع (الآن اكتشفت نفسي)؛ فكانت الأفكار والأشجان والأحاسيس تُسابق قلمي؛ فتفرغتُ له حتى أنجزته، وقلت في نفسي: (ليكن من حظ جريدة الجزيرة هذا الحديث النافع دنيا وآخرة).. وأما (أكرموا آل البيت) فأنقل معركتها إلى جريدة أقرب اتصالاً بهذا الموضوع، وأردتُ أن يكون الموضوع رسالة للشريف حقيقةً الدكتور عصام الهجاري؛ ليقوم بما يجب عليه (شرعياً، وإدارياً) من حفظ نسب آل البيت الطاهر من التزوير والادِّعاء وإدخال البُعَداء الغُرباء فيه أفواجاً بغير حق.. وأما دور أبي عبدالرحمن علمياً وبمرافعةٍ شرعية وإدارية: فيكون واجباً عليَّ من جهة تبرئة أبناء العم عقيل بن عمر، وأبناء العم الأقرب أهل شقراء أبناء (عمر بن عبدالرحمن) جدي الخامس رحمهم الله جميعاً، وإيقاف المزور عند حدِّه، وردعه إدارياً وشرعياً عن الفتنة والتزوير، أو إعادة النظر في تجنيسه؛ لأن نظام الجنسية يلغي التجنيس إذا أخل المجنَّس بحق المواطنة، وسيرى هذا البيان العلمي النور قريباً إن شاء الله في كتاب مستقل بعد النشر في الجريدة التي اخترتها؛ فلما قفز موضوع (الآن اكتشفت نفسي) على موضوع (أكرموا آل البيت)، وأن يكون هو نصيب جريدتي الجزيرة: تذكرت قول العامة، وهو قول صحيح المعنى، ولا أعلمه مأثور اللفظ.. جاء على صيغة الحديث القدسي، ونصه: (تُرِيد يا عبدي وأنا أريد، وليس لك يا عبدي إلا ما أريد)؛ فهو صحيح المعنى، لأنه مقتضى قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (سورة التكوير:29) ؛ فهنيئاً لي بإنجاز هذا الموضوع الإيماني الأهمِّ، وهنيئاً لي بكونه أول نشاط لي بجريدتي الجزيرة بعد الانقطاع القسري منذ أول شهر رجب؛ فإلى ممهدات هذا الموضوع، وهو هذا الحديث الذي هو هذا الخليط من العلم الشرعي، والعلم اللغوي, والإبداع الأدبي الحديث، والأدب الحداثي، وفن الغناء والرسم.. وكل هذا الخليط يصب في مصب واحد هو ابتغاء مرضاة الله بمعرفة مراده الشرعي، وتنبيه الأذهان عن المَلَلِ بالإحماض؛ فاصبروا واعجبوا واضحكوا معي وابكوا؛ فأنتم على خير إن شاء الله.. ومن هذا الاستكشاف الذي استجدَّ لي أنه مضى عمري لم أصدر عملاً متخصِّصاً مستوعباً لفن بعينه؛ لأن مزاجي عنيد لا يخضع للأَرْشفة (1)؛ فلما أردت أن أرثي نفسي وجدتُ أنني غير محروم من الخير، وأن المنهج الذي أريده منقاد لي طوعاً بإذن الله لو أردتُ سلوكه؛ لأنني مزيج مركَّب من أخلاط المعارف النظرية، وما ينتج عنها من علم يُغذِّي كل حقل معرفي، وهو ما يظهر من الفروق والعلاقات بين المعارف.. ويصحب ذلك حسٌّ جمالي مفرط الشفافِيَّة، وتحديثٌ بنعمة الله عن موهبة فكرية لا تخلط الأوراق.. ثم حرصت أن لا أَحْرِمَ نفسي من التخصُّص في جناحين للمعرفة لا ثالث لهما: هما أسرار اللغة، والتأصيل الفكري.. ويلتقي مع كل ذلك ذكريات غير محمودة خَلَّفتْ ندماً وامْتعاضاً، ولذَّةُ إنابةٍ انبثق عنها شفافية أيضاً مفرطة في التورُّع؛ ولاختلاط الماضي بالحاضر يحار المتلقي: هل أنا واعظ، أو مُطْرِب، أو نديم.. وليس في الجمع بين ذلك تناقض؛ لاختلاف الزمان.. كما أنه لا يوجد تضاد؛ لأنه جائز أن لا أكون شيئاً من ذلك، وجائز أن أكون شيئاً غيرَ ذلك.. والنديم صيغة مبالغة لفعل المنادمة؛ فذلك هو الوجود بالفعل.. والنَّدْمان عن بلوغ الغاية في الذات، وذلك هو الوجود بالقوة الذي يظهر منه الوجود بالفعل مثل شبعان وملآن، فالملآن عنده قوة على أن يملأ غيره مِمَّن هو دونه على أقل تقدير، وأما بمعنى بلوغ الغاية فالفَعْلان لا ينقص مهما ملأ غيره.. وأما فيما يتعلق بربنا سبحانه فالرحيم لغاية الكمال في فعله جلّ وعلا الرحمةَ لخلقه، والرحمان لبلوغ غاية الكمال للاتصاف بهذه الصفة التي يصدر عنها رحمته لخلقه من غير أن ينقص شيئ من كمال الاتصاف تعالى الله.. وأما بعد فلقد أثْنَى عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم على شاب ليست له صبوة، وبشَّره بأنه من الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ فعصيتُ سلوكاً وتقصيراً وغلبةَ هوىً لا عقيدةً؛ فامتلأتْ حياتي بالصَّبوات وإن كان لي فيئات كأفاويق (2) الناقة.. وقال ربنا سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأحقاف -15)؛ فكان أهل المدينة المنورة - بلَّغني الله قضاء حياتي بها - يشدُّون المئزر للعبادة إذا بلغوا هذا العمر؛ فعصيتُ سلوكاً لا عقيدة، وأوضعتُ وأرْقلتُ (3) في الغفلة والتقصير والتسويف وإن كانت أفاويقي أكثر.. وأخبر الرسول أن الله أعْذَر لابن ستين عاماً؛ فعصيتُ سلوكاً لا عقيدة، ولكن الألم يعصر قلبي؛ فلما بلغتُ سبعين عاماً إلى هذا العام الرابع بعد السبعين استيقظتُ، وأخذتُ نفسي بالرياضة تدريجياً ولَمَّا أبلغ ما أريده؛ فلماذا هذا الإيضاع والغفلة وأنا ابن الفطرة ومن مدينة شقراء بين رجال جباههم مُطَيَّبات من ثفنات السجود ؟!.
قال أبوعبدالرحمن: الجواب من ثلاثة أمور:
أولها: أنني منذ نضجتْ مداركي سلَّمتُ قيادي لابن حزم بالتتلمذ الأعمى، وهو إمام عالم مجاهد متين الدين أدَّاه اجتهاده الخاطئ إلى ورطات غطستُ فيها غطسة الغريق، ولبيئته رحمه الله أثَرٌ في ذلك، ولكن أي بيئة لي مثل بيئته وأنا من بيئة الحرمل والحنظل.. لا عطورَ، ولا نوافيرَ، ولا أوتارَ زرياب، ولا حسناوات النورمان؛ فتكلَّفتُ التَّصابي تقليداً له حتى كان التطبُّع طبعاً؛ فتوحَّلْتُ في الحب والطرب، وإن كان مرَّ بي أزمة عاطفية في زواج فاشل فهي لا تُبيح لي تلك الورطات لو ظللتُ على فطرة النشأة في مدينتي شقراء مدينة الفطرة، ومدينة مسجد الحسيني المبارك.. قرأتُ طوق الحمامة، وقرأت إباحته للغناء الملهي في رسالة خاصة، وفي مسألة من كتاب البيوع بالمحلى؛ فانْماع قلبي ووجداني، وتقاطر طرسي.
وثانيها: الإيغال في العمل الفكري، وهو خير وبركة، ولكن بعد أن يرقَّ القلبُ بممارسة أشواق الروح مما صحَّ من ممارسات الربانيين ككتب ابن قيم الجوزية رحمه الله في الرقائق، وكشيئ من مُبكيات القلوب آخُذُه بحذرِ من تجربات القشيري والمحاسبي وأبي طالب المكي وغيرهم بعد تحقيق الدلالة والثبوت؛ لأن المرجع إلى نصوص الشرع وسِيَر قدوة الأمة من السلف كالصحابة رضوان الله عليهم.. ولكن أنَّى لقلب يرقُّ ويَهَشُّ (4) لهذه الرياضة وقد أُفعم بالطرب والحب؛ فكان علمي فكرياً عقلياً لا يلامس القلب إلا في الأفاويق التي ذكرتها.
وثالثها: التعلم لذات العلم مع شوائب من الرياء وطلب السمعة؛ فكانت قراءتي الشرعية تتسرَّب من الذاكرة بسرعة؛ لأن وعاء العلم القلبُ لا العقلُ العابر المتغطرس، وكانت صناعتي الجدل، وأَقْبِحْ بها من حرفة تُقَسِّي القلب!!.. ولكن ربي جلّ جلاله لم يحرمني من الخير؛ لأن للفطرة والنشأة والميل للعلم الشرعي (وإن كان بتلك الصفة) أثراً مباركاً؛ فكان لطف الله بي كزخَّات المطر في الأفاويق التي ذكرتها، وأذكر نماذج:
مرة أكون في بلد أجنبي، ونافذتا غرفتي الكبيرتان تُطلان على البحر، والقوم - وليس بعد الكفر ذنب - في رقص وزمر وغناء خواجي أجمل منه صوت الحمير، فتنقبض نفسي، وأقفل النوافذ، وأتوضأ وأقرأ ما تيسر من القرآن، وربما قدَّمتُ بركعتين لقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه كلما توضأ تنفَّل (5)، ثم يمر بي آيات مؤثرة تقترن بوضعيَّة حياتي، فأطبق المصحف، وأرفع رأسي إلى السماء (ودعوة المسافر مُجابة)، وأذهل عن نفسي فلا أذكر إلا قليلاً من الدعاء الذي يفتحه الله عليَّ, ومنه: (أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت بنوره السموات والأرض أن تقذفني في النار طرفة عين؛ فإني عبدك الضعيف لا أقوى على ذلك)، وأستعيذ بالله من عذاب القبر وضغطته ووحشته، وأشفق من الموقف العظيم؛ فلا تمنعني إساءتي من دعاء ربي بإلحاح أن يظلني تحت ظل عرشه.. ومما كنت أقوله تلقائياً وليس كلُّه مأثورَ اللفظ: (اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسن عمله.. اللهم أحيني حياة سعيدة مديدة تكسب عملاً صالحاً عامرة بالعلم النافع والعمل الصالح إلى يوم ألقاك غير مبدِّل ولا مُغِّير، وأنت راضٍ عني، وأنا مشتاق إلى لقائك، واثق بعفوك، غير مستوحش من ذنوبي).. وأسأله تعالى العصمة من الذنوب كبيرها وصغيرها ولمَمِها، وأسأله حسن الثناء عليه، وصدق التوكل عليه؛ فوجدت أثر ذلك عاجلاً وآجلاً؛ فالعاجل أنه ينزاح عني كابوس، وينشرح صدري؛ فأتفاءل بأن ذلك من بشرى المؤمن في حياته على الرغم من ظلمي نفسي، لقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة يونس 62- 64)، ومن الآجل أن الله أنعم عليَّ في وقتٍ قصير بحفظ مأثوري من الأدعية الشرعية الصحيحة الموظَّفة والمطلقة، واستزدت بحفظ ما لم أكن أحفظه؛ فهذه بشرى من الله أن وفَّقني لحسن الثناء عليه، وبدأت أنخل كتب الأدعية رواية ودراية، وأُنقِّيها من أو شاب علماء زهاد أرادوا الخير؛ فتزيدوا بغير المأثور، وحملوا بعض المعاني على آثار من الزهد تأتَّت إليهم من متصوفين ليسوا علماء في الشريعة يُلَقَّبون بالعارفين بالله، وبدأت بكتاب العالم الورع أبي بكر الطرطوشي رحمه الله؛ فهو خليق بالتنقية، وأما كتب أبي حامد الغَزَّالي في الزهد والذكر ففيها خيٌر يُعين على الرياضة، ولكنَّ تنقيتها أشق.. ومن ذلك الآجل أن الله بغضَّ إليَّ الطرب في وقت قصير؛ فوجدتُ قبحه في الأذن والنفس، وآليتُ على نفسي بِأَخرة أن لا أُجامل أحداً فيه؛ فإن كان سماعه لا استماعه ضربة لازب سبَّحتُ ربي في قلبي، ولن أكرر ما نشرته عن الطرب في هذه الجريدة، ولكن براءةً لذمتي، وتكفيراً لما سوَّدته من أوراق خاسئة: أُشهد الله، وملائكته، وحملة عرشه الكرام، وجميع خلقه - من غير جدال في تصحيح حديث وتضعيف آخر، بل الأمر تجربة نفسية -: أن الغناء مهما كابر المكابرون يُقسِّي القلب، ويُعين على هجر القرآن الكريم وحديث رسول الله وسير الصالحين؛ فإن عانى ذلك بالرياضة حصل له فهم وإدراك عقلي، ولم يحصل انفعال قلبي كما ينفعل مع أصوات خنافس البشر وعلب الليل.. وأشهد ثانية أنه ليس مَجْلبة سرور وفرح وطمأنينة، بل هو كباطِيَّة (6) أبي نواس يتداوى منها بها، وهي تزيد هماً وحسرة، وتصدُّ عن خير كثير.. وأشهد ثالثة أنه ليس غاية المسلم أن يدخل الجنة بعد تطهير بالنار، بل غايته أن يدخل الجنة بدءاً، ثم غايته أن يزداد مُلْكاً كبيراً في يوم التغابن، وهذا يحصل بعفو الله ورحمته والاستكثار من المستحب بعد الواجب، والعزوف عن المكروه؛ ليجبر نقصه في الواجب؛ فرحم الله شيخي الإمام أبا محمد ابن حزم، وجمعني به ووالديَّ وأحبابي وعامة المسلمين في دار كرامته؛ فقد ضَلَّلني في الانمياع في حب من ذكريات شبابه تراجع عنه، ومن تصميم على إباحة الغناء باجتهاد خاطئ وإن صرَّح بأن ترك سماعه أفضل، وأسال الله تعالى أن يجعله ممن يحصل على أجر ومغفرة في هذا الاجتهاد الخاطئ؛ فالمعروف عنه رحمه الله أنه ليس صاحب هوى، وأنه لا تأخذه في الحق لومة لائم؛ فأَحْمِلُ هفواته وهفوات غيره من العلماء الفضلاء على خطإ الاجتهاد.
قال أبوعبدالرحمن: هذا هو مقياس الفضائل الأُخْروية الذي ينبغي أن يكون معيارنا في دنيانا، وبالمقياس الدنيوي أقول: لو كان الغناء خيراً - وهو لا خير فيه بيقين - لوجب على السِّميعة في هذا العصر أن يرحموا أنفسهم؛ فالفن الآن قُبح أصباغٍ وتجاعيدَ، وعفنُ هز وغمز بلا ملاحة، وكلمات عامية بلهجات قبيحة، ومخارج للحروف تجلب الغثيان، وشعر رعاة خليٌّ من الفكر والوجدان المجنِّح والثقافة الآسرة، وضحولة طبقات صوتية تليق بشعر عامي قصير النَّفَس ضعيف النبر.. ومن العجب أن يُطلَق اليوم لقبُ (مطرب العرب) على صوتٍ شعبي غنَّى بالشعر العامي؛ فرفعوا شأنه؛ لأنه لغة الجمهور.. وهو عاجز عن مسايرة ألَقِ الشعر الفصيح، مع مداخل موسيقية صاخبة مُلفَّقة أو مسروقة هي في وادٍ واللحن الساذَج في واد.. حقاً لقد فسدت الأذواق؛ فإذا كانت هذه الحشرجةُ العاميةُ كلمةً، الشعبيةُ أداءً هي صفة المطرب للعرب: فأين نضع مثل (محمد عبدالوهاب) الذي ما رأيت في حياتي أسرع منه بديهة، ولا أجمل منه نبرة؟!.. إذا تحدَّثَ خلتَه من عرب الجاهلية في فصاحتهم وإعطائهم مخارج الحروف حَقَّها، وما رأيت أوعى منه ذاكرةً لشعر الفحول أمثال شيخه أحمد شوقي، وهو الذي أعاد للَّحن العربي مجده، وأرضى أَثْرى المؤدِّين طبقات صوتية.. تمنَّيتُ لو قلتُ ذلك مُبكِّراً، وأما اليوم فسلوتي الكريمة المعيارية في غير هذا؛ فيا مَنْ لا ترون بأساً في الطرب ارحموا أنفسكم، وحَسِّنوا أذواقكم بكلمات: تُرْهِف المشاعر، وتصقل اللسان، وتُورث المُتْعَة.. وارحموا أنفسكم باختيار الثلاثي العبقري (الشاعر، والمُلَحِّنُ، والمؤدِّي)، وإن تبتم فهو خير لكم.. واعلموا أن اللهجات المحلية في جزيرة العرب على الرغم من صلتها الحميمة بالفصحى ليست جميلة الأداء من قِبَلِ الناطق بها مخرجاً ونبْراً؛ فستظل لهجة محلية مثل عامية لبنان والشام ونصف أفريقيا الشمالي، وما أَصْعَد من بلاد العرب جنوباً.. ولعل أكل القُعْقاع (ثمر العاقول)، ومَضْغَ طَلْع النخل - وهو أصل القنو (العِذْق) الذي تسميه العامة كافوراً - أثَّر في حناجرنا بالبُحَّة والحشرجة.. وليست كذلك عامية أرض الكنانة (باستثناء أعماق الصعيد)؛ فتلك العامية هي الوسيط الثالث الذي يجتمع عليه فهمُ النُّخبِ والعاديين، وهو الذي تجتمع عليه أذواق كل شرائح المجتمع في الوطن العربي.. وأشدُّ أهل الكنانة عامية أهل الأرياف؛ فالمسحَّراتي مثلاً وهو عامي يترنَّم بالفصيح مثل:
(أيها النُّوام قُوموا للفلاح.
واذكروا الله الذي أجرى الرياح.. إلخ)
ويغني بالعامية فلا ينبو عنه ذوق ولا فهم مثل:
(قومي يا أم محمد وصحي جوزك.
بلاش كسل.
وأنت يا سي فؤاد: هو النوم مالوش آخر).
لقد كسى الله نطق عوامهم ملاحةً وجاذبية تأخذ بتلابيب القلوب، وليس كذلك عامية السواحل ووسط الجزيرة.. وأما زجل أمثال أحمد رامي وعبدالوهاب محمد وبيرم التونسي فهو لغة المثقفين.. وفي أيام الصبوة بثثتُ شكواي من فساد الذوق في حلقة نشرتها بعنوان: (بكائية لأم الملايين) ، ثم توقَّفتُ عن نشر الباقي؛ مخافةَ أن أجرح بعض المشاعر.. وهكذا فعلتُ في قصائد لي من الشعر المُبَعْثر إلا أنه يحكمها قفزات الخبَبِ النِّزاريَّة.. وذوق بعض السِّمِّيعة في بلادي إنما هو تَذَوُّقُ شعر عامي قصير النفس تردح به الطَّقَّاقات الأُمِّيَّات في الأعراس، وردحهن كلعب الفطَّر الشِّيب (الإبل)، والعامة تقول: (يا شين لِعْبِ الفطَّر)!!.. يعجبون من القبح.. وردح الطقاقات يجعل الأرض تراب صِير الباب (7), ولا جمال فيه أداء, ولا مخارج، ولا نبراً.. ولا جمال في رقص الإبل فتبارك الله أحسن الخالقين!!.. ولو أنصفوا لقالوا: (مطرب العامية، أو المطرب الشعبي).
قال أبوعبدالرحمن: ومن ذلك العاجل أنني كنت أحفظُ كثيراً من القرآن الكريم، وأنوب عن الإمام في صلاة التراويح فيما بين عام 1382هـ و1388هـ، وكان أحد المشايخ الفضلاء من أترابي يأتي إليَّ بعد صلاة الفجر لنُكْمل حفظ القرآن الكريم.. ولكن لتعاطي الغناء والانمياع مع الظرفاء والمطربين كبليغ حمدي ومحمد سلطان وغيرهما، وبتأثير المُجَّان: تراجعت القهقرى عن المسجد إلا لِمَاماً، وقطعتُ مواصلة حفظ القرآن، واستوحشتُ من مجالسة الصالحين سوى عدد من المشايخ يأنسون بي، وشعرتُ أني عندهم من المؤلَّفة قلوبهم يستألفونني، ومن أكثرهم تَخَوُّلاً لي بالموعظة سماحة الشيخ عبدالله ابن حميد(8) بعد شيىء من الممازحة، وسماحة الشيخ صالح ابن غصون، وشيخي الدكتور عمر ابن مترك رحمهم الله جميعاً.. وأما سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله فقد انقطعتُ عن درسه بالجامع الكبير قبل أن يكثر جمهوره من طلبة العلم لما كان يأمُّ المصلين أحياناً قبل تفرُّغ ابن هُدَيَّان رحمه الله للإمامة، ثم عاودتُ ذلك في آخر حياته على استحياء، ولا أزوره إلا لماماً لحاجة، وكان أشدهم عتباً وتعنيفاً، ولكن يتبع ذلك البكاء والدعاء.. وقد ذكرت في التباريح أن سماحة الشيخ محمد ابن عودة متعه الله بالصحة والعافية اتصل بي هاتفياً وبيتي شرق شارع جرير؛ فقال: (السلام عليكم)، فرددت عليه بتحية الإسلام ولم أعرف صوته، فقال: (يا شيخ محمد)؛ فعاجلته قبل أن يتم كلامه بعجرفة (9)، وقلت: (لست شيخاً، ولا أحب المشايخ).. فقال: أنا أخوك محمد ابن عودة، وعدم حبك للمشايخ سلمك الله لن يضعهم، وحبك لهم لن يرفعهم، ولكنني مدعوٌّ عندك الليلة (وكان عندي معالي الشيخ ناصر الشثري، وسماحة الشيخ راشد ابن خنين متعهما الله بالصحة والعافية، والشيخ محمد البواردي رحمه الله، وآخرون نسيتهم): فخجلتُ أشد الخجل، وغصصتُ بريقي، وقلت: يا شيخ محمد: لا تؤاخذني فإنني كثير المزاح.. فقال: عذرك مقبول، ولكن صِف لي البيت!!.. وقبل أن تنقطع عني أخباره كان يذكرني دائماً بهذا الموقف.. ومن تأثير أولئك المُجَّان أنني أُنسيتُ ما حفظته.
من القرآن الكريم، وعَسُر عليَّ جداً استذكاره، بل كانت معاناتي لحفظ سورة جديدة أيسر؛ وبفضل الله كان من الأثر العاجل الذي أسلفته أن يسر الله لي استعادة كثير مما أُنسيته مع مواصلة حفظ جديد.. ولكنَّ تلاوتي للقرآن مطالعة أو حفظاً على غير ما أعهده؛ بل كانت قراءة واعية يَرِقُّ لها قلبي، وتدمع لها عيني على خلاف سنوات الغفلة والانهماك؛ فقد كانت عيني جامدة، وقلبي قاسياً إلا في لحظات نادرة، وكان الله يفتح عليَّ من فهم المعنى ما كان يمرُّ سابقاً من حنجرتي من غير وعي.. ومن ذلك العاجل أنني أتابع إذاعة القرآن الكريم إن كنت في عملٍ حِرفي كترتيب مكتبتي، وأضع الراديو على مكتبي بصوت خافت؛ فإذا لفت نظري تلاوة أو حديث رفعت الصوت وأصغيت.. وكنت أتأذى أحياناً من أحاديث ودروس غير محققة، ومن بعض التمعلُم، ومن بعض أصوات لا تلج معانيها في قلبي، وسأذكر شيئاً من ذلك إن شاء الله.. ولكن في مرات أخرى أسبح مع بعض المتحدِّثين بخشية؛ لأن ما خرج من القلب دخل في القلب كسماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله؛ وإنني لأعجب كيف يهزني حديثه بعد لقائه ربه ولم أُلْقِ له بالاً في حياته؟!!.. وهكذا سماحة المفتي، ومعالي الدكتور الشيخ صالح الفوزان؛ فإنه كما يهزني حديثُهم فأشتدُّ حسرة، وأكاد أبصق على لحيتي، وأقول في نفسي: كيف قضيت حياتك وقضى هؤلاء حياتهم؟.. وهكذا شيخي عبدالعزيز الداود متعه الله بالصحة والعافية على نُدْرة لقائي له تدمع عيني من حديثه العادي لورعه وعلمه وبعده عن الفضول.. اللهم إني أحبهم في الله وكفى بالله عليَّ حسيباً، وتحسُّري بجانبهم إنما هو غِبطة مأجورة وليس حسداً مأزوراً.. وكم قرأتُ وقرأتُ مما يُلْقونه ولكن الذي استجدَّ التأثر والانفعال.. ثم راجعتُ ما أنا فيه من ميل فكري، وغربلتي مسألة واحدة وإن جهلت عشر مسائل؛ فما رأيتُ الفكر عيباً، ولا التحقيقَ مثلبةً، ولكن بشرط الاستيعاب ونزاهة القصد، وتحرِّي مراد الله، والبُعْد عن الحميَّة لمذهب أو إِلْف أو عالم بعينه أو ابتغاء السمعة والشهرة؛ فآليتُ على نفسي أن أصدع - حيثما تسمح الظروف - بما أعتقده حقاً لا تأخذني في الله لومة لائم.. مُصْغِياً إلى ما عند معارضي من حق، وأن أبتعد عن شهوة الجدال غير المشروع؛ فأعرض عمن يتكلم بغير علم، أو من يتحدث بعلم غيره لا بتحقيقه هو، ولا أشْتَدُّ في النزاع، بل أُبَيِّن وجهة نظري وبراهيني، وكل واحد مؤتمن على ما استقر في نفسه عن علم وبرهان إلا ما يتعلق بتقديس الرب سبحانه من تعطيل أو تشبيه، وما يمس جوهر الديانة في ثبوتها وحجيتها وأنها من عند الله، وما يتعلق بكيان أمتي تاريخاً ولغة ورقعة؛ فهذا لا مساومة فيه ألبتة (10)، ولا مسامحة في الحقائق. ولي تجربات نفسية قبل الإنابة وبعدها هي أكبر برهاناً من براهين العلماء الربانيين والمتكلمين والفلاسفة على الإيمان بالله الكبير المتعال بصفات الكمال المطلق.. عرفت بها ربي وأحببته مع غفلتي, وعلمت أنني بين يدي قدير رؤوف بالعباد لا تخفى عليه خافية ولا يعجزه شيء، وأحببت من جرَّاء ذلك أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام وعباده الصالحين وشرعه.. ووجوه ذلك البرهان لا أحصيها، ولكنني أذكر ما يعنِّ لي؛ فمن ذلك أنه يمرُّ بي ما يمر بالآخرين من هموم زوجية أو عائلية أو عقوق ولد أو ضائقة مالية أو ظلم اجتماعي أو ما يتنافس فيه الناس من حظوظ الدنيا التافهة التي لا تستحق أن يرفع بها المسلم رأساً.. وهذه الأمور إذا حزبت يحدث بها انتحار في عالم الكفر، وعند من ضَعُف يقينه وإيمانه؛ فيا غوثاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، فاللهم عصمتك؛ فلا ملجأ منك إلا إليك.. أعوذ بوجهك الكريم من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وجهد البلاء، وأسألك حسن الخاتمة؛ فإذا حزبتني هذه الأمور وأنا فرد وحيد ضعيف بنفسي.. ضعيف برهطي: فإنني أَفِرُّ إلى ربي بإحسانِ وضوءٍ وصلاة، وعند مضجعي أريد النوم, وفي أوقات الإجابة، وربما لازمت الأماكن المقدسة كالحرمين الشريفين؛ فأستمطر رحمة ربي بتسبيحه وتقديسه واستغفاره، وربما طال انتظاري النوم من الهم في مضجعي؛ فيأخذني النوم على غرة بعد ما لا أحصيه من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير ودعاء.. وفي الصلاة مثل ذلك، وأُقدِّم بين يدي ذلك الدعاء بأن يكون ما أنعم الله به عليَّ من صحة ونشاط ورزق وفراغ وعلم عوناً لي على طاعته, وأن لا يكون استدراجاً, وأستقيل ربي من ذنوبي معترفاً باستحقاقي العقوبة، وأسأله الرحمة قائلاً: (عافيتك يا ربي أوسع لي)، وأعلم أنه لابد من ابتلاء المسلم وامتحانه من ربه؛ ليظهر لجنده الكرام صدق إيمانه؛ فإن أصابني شيىء بذنبي ألححتُ في الحمد والشكر بأن جعل إصابته مني على قدر تحمُّلي؛ فإن حصل لي طُمأنينة عرفتُ أن ذلك بشرى وانتظرت الفرج؛ فإن لم أجد لعبادتي طعماً، ولا حضورَ قلب، ولا بشرى طمأنينة: علمت أن الله مُعْرِضٌ عني، وأن عملي مردود؛ فأنسى ما حزبني من الأمر, ويحزبني ما هو أدهى من ذلك من خوفي من الطرد والرد, فأعاود دعاء الغنيِّ الحميد الحَييِّ الكريم الذي لا يردَّ يدي عبده صفراً إذا رفعهما، وأُلح بدعاء علَّمني إياه أبي في الصغر مع ما غذَّيته في وعاء قلبي بالتعلم.. وكنت تعلمت من أبي رحمه الله - وهو رجل شبه عامي - دعاءً غير مأثور، وهو أن أقول إذا استعجم لساني ما قالته الجارية: (ربي إني لقيتك سوادي وأنت تعلم ما في فؤادي)، وربما سبق إلى خاطري سهواً بعد أن استبدلته بالدعاء المأثور، ولقد نفعني الله به على الرغم من أنه غير مأثور؛ فهو دعاء مجرَّب نفع الله به العوام؛ لضعف تعبيرهم، وقلة تحصيلهم العلمي، وأحسبهم خيراً منا وأزكى على عاميتهم؛ فألح في الدعاء، وأتخلله بما سمَّاه العلماء بالباقيات الصالحات - وهي تسبيح معيَّن -، والحق أنها نوع من الباقيات الصالحات وإن قال بتعيينها بعض العلماء لورود أحاديث بذلك، وألَّفوا في ذلك الكتيِّبات.. والصواب من القول ما ذهب إليه الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: أن الباقيات الصالحات كل عمل خيرٍ من واجب ومندوب يُقَرِّب إلى الجنَّة؛ لأن هذا هو عموم مقتضى سياق قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (سورة الكهف - 46)، وقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً)}(سورة مريم - 76)؛ فكل نية صالحة، وقول صالح، وعمل صالح بنية العبادة لله وحده سبحانه يُقَدِّمه المكلَّف لآخرته؛ فيكون خيراً له أملاً وخيراً له مرداً: فهو موصوف بضرورة اللغة بأنه من الباقيات الصالحات.. والأحاديث التي ذكرت الباقيات الصالحات مُعَيَّنة في التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل: محالٌ في دين الله بضرورة الشرع أن تنفي صفة الباقيات الصالحات عما هو صالحٌ آخَرُ كالصلوات والصوم والزكاة الواجبة والصدقة المستحبة وإكرام الضيف والجار وصلة ذوي القربى وإطعام الطعام وإفشاء السلام؛ فصحَّ أن تلك الأحاديث تعني ما هو من أنواع الباقيات الصالحات.. كما كنت أتخلَّل الدعاء باللجوء إلى الله، والبراءة من الحول والقوة، والاستعاذة من مقته وغضبه وسخطه ومكره، وهو جل وعلا خير الماكرين لا يمكر إلا بمن مكر به وحادَّ شرعه؛ فأول برهان لي على أنني في عناية رب كريم غني حميد لا يعجزه شيىء زوال الهمِّ عني؛ فلا أعبأ بما حزبني، ولا أحزن على فائت، ولا أخاف من آت إلا لقاء ربي الكريم ما دمتُ سليم الأديم والإدراك، فإذا عجزتُ فليس لي إلا حسن الظن بربي، والله يلهم عبده في الضراء نتيجة إيمانه في السراء.. وأظل في أنس وابتسام ضامناً الفرج من ربي وأنا لا أعلم كيف سيكون عليه الأمر، ولكنني بانتظار الفرج يقيناً؛ فيأتي الفرج بأسهل الأسباب، ولا أحصي المرات التي حصلتُ فيها على بشرى من ربي طمأنينة، وعلى فرج بقضاءٍ كوني من ربي رحمةً منه؛ فأُحِسُّ الوجدانَ في قلبي محبةً وشوقاً وشكراناً لما أولاني إياه مع ضعفي وتقصيري، والله يرحم عبده المضطر اللاجئ إليه مهما علم العبد من نفسه من شنيع الذنوب.. ولولا خوف الحِنْث من غياب شيىء لا أعلمه لأقسمت بالله أن مثل هذه التجربة النفسية دلتني على ربي أكثر مما كنت أحذقه من البراهين الفكرية العلمية حتى لكأني أرى ربي بعين قلبي رعاية ولطفاً ورحمة وعلماً كما قال حملة العرش عليهم السلام فيما قصه الله عنهم بقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (سورة غافر - 7)، وكما قال سبحانه عن إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (سورة الأنعام - 80).. مع أنني أقلُّ من الجُزْءِ الذي لا يتجزَّأ عند الفلاسفة في كون ربي الوسيع العريض؛ فخيَّب الله المعتزلة الذين لم يقدروا المولى الجليل حق قدره، وقالوا قبحهم الله : (إن الله لا يعلم الجزئيات)؛ فسبحان المولى الكريم (عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته)، السميعِ نداء عبده الضعيف في ملكوته الواسع العظيم الذي لا تبلغ كنهه الظنون.. ثم يعتريني غفلة وتقصير وكثرة دعابة ومزاح إلا أنني اعترافاً بفضل ربي وتحديثاً بنعمته لم أفقد في حياتي - والله المستعصم فيما بقي - شيئاً من يقيني القلبي؛ فأعود إلى ربي بالاستغفار والتمجيد؛ فيعاودني باللطف والرحمة.. إن من شرع الله ما هو خبر يُصدَّق به على ظهر الغيب من قِبَل المؤمن، ويُكذِّب به مَن كفر، ولكنَّ وجدانَ آثاره في نفس المؤمن برهانٌ عظيم على معرفة الرب سبحانه أكبرُ أثراً من البراهين العلمية العقلية.. ومن أخبار الشرع المطهر التي يمتحن الله بها عباده تكذيباً أو تصديقاً خبره الكريم عن الشيطان الرجيم المغيَّب عن حواسنا الظاهرة، وهو عدونا منذ أبوينا عليهما السلام: يعدنا الفقر، ويأمرنا بالفحشاء, ويزيِّن لنا سوء أعمالنا، ويلبِّس علينا في عبادتنا.. هذا خبر؛ فليحمله الحاملون على ما شاؤوا، ولكن لي تجارب عجيبة ثبَّتتْ إيماني بأن الله الحق، وقوله الحق؛ حتى أيقنت أن العناء في العبادة الذي سأذكره بعد قليل إن شاء الله في جهاد الشيطان عند العبادة هو في ذاته نوع عظيم كريم من أنواع العبادة، فمرة كنت في بلاد الخواجات عند النافذتين اللتين أسلفتهما، وربما حكمت ظروفي ولاسيما الصحية أن أصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً منفرداً؛ فيكثر سهوي، ولا أدري كم صليت، ولا أعلم ما ذا قرأت، ويكثر سجودي للسهو، وأحياناً تحضرني نكتة سخيفة فأبتسم في صلاتي، وأحياناً تحضرني مقطوعة أدبية ماجنة لا أعي بها لبَّ الصلاة من التلاوة والدعاء، وأتذكر أشياء بعيدة المدى، وأشياء أريدها قبل الصلاة وأنساها فإذا شرعت في الصلاة ذكرتها؛ فلا أكتفي بسجود السهو بل أعيد صلاتي.. ولما طالت معاناتي لاب ببالي - وإني لأميِّز في قلبي بين لمَّة المَلك الكريم، ووسواس الشيطان الرجيم - أن لا أكتفي بالإقامة، بل الأذان أفضل الذكر في بلاد الفسق والكفر؛ فأذنت.. وأقسم لكم بالله العلي العظيم، ولعنة الله على الكاذبين (وقد أقسم لكم أبو عبدالرحمن وعمره أربعة وسبعون عاماً لا يدري متى يلقى ربَّه؛ فصدِّقوه, ولا تستكثروا بما يُخيَّل إليكم من حصافة عقولكم): أنه (11) أصابتني وحشة عظيمة، وما أعرف الوحشة في حياتي، بل كنت مِدْباس (12) ليل، وأحسستُ أن مخلوقاً يفرك قلبي بأصابعه، وأنا أدافع ذلك قبل الشروع في الصلاة بالتهليل والتقديس والتعوُّذ؛ فشرعت في الصلاة وأنا على وحشتي كأن الغرفة تدور بي، وكانت تلتبس علي قراءة سورة الفاتحة، ولا أكاد أحصي من صلاتي شيئاً، وكرهتُ أن أقطع صلاتي وأنا على نية إعادتها، فلما فرغتُ من صلاتي ثاب إليَّ رشدي، وصرت كأنني أحاور رجلاً عن يساري, وأقول: أنت عدو الله تأمرنا بالفحشاء، وتعدنا الفقر، وتُلَبِّس علينا ديننا, وتصدنا عن الأنس بالله.. إن شيطان المؤمن هزيل، والله قسماً برب كريم لأدحرنَّك ولأحرقنَّك؛ فنهضت بنشاط كأني شاب ابن عشرين عاماً؛ فرفعت عقيرتي بالأذان مرة أخرى بجهُوريَّةٍ وأناة وترجيع, فانزاح عن نفسي كابوس عظيم، وأديت صلاتي بخشوع وطمأنينة، وكانت هذه الغُريفة سكينة أنسي بالله، وأعمرها بتلاوة كلام الله أطراف الليل وأطراف النهار، فيحصل لي وعيٌ بمعاني كلام الله لم يحصل لي بالبحث والتنقيب في كتب التفسير مما كنت أُعانيه أيام شهوة التمظهر العلمي في برنامجي (تفسير التفاسير) - الذي هو مماحكةٌ علميةٌ وليس ذوقاً قلبياً -.. وأحياناً تخضلُّ لحيتي بالدموع رعشة وقشعريرة، وقد قلت لكم كثيراً: (إن لملائكة الرحمن السُّياح عليهم السلام أثراً في ذلك؛ فهم يحضرون مجالس الذكر، ويستغفرون للمسلم مسيئاً أو محسناً)، وكان يُفتح عليَّ بدعاء حفظه الله لي، فوجدت أثره وحلاوته في ثمالة عمري، وأسأل الله أن يصحبني صدق الإنابة إليه، والتوكل عليه, وأن يمنحني العصمة حتى ألقاه راضياً عني؛ فهذه تجربة نفسية حَدَث بها برهان علمي على صدق خبر ربي عن الخناس الوسواس.. ومنذ ذلك اليوم علمتُ يقيناً أن الشروع في العبادة ليس اعتباطاً، وأن جهاد الوسواس الخناس ليس سهلاً؛ فعدو الله يُشامُّك في كل أنواع العبادة كما يشامُّ الذئبُ الغنم؛ فتعهدت نفسي إن كنت مأموماً أن أسدَّ الفُرج، وإن كنت منفرداً أن أباعد ما بين رِجْليَّ بقدر ما يحصل به اتِّزاني في الوقوف، وفي كلتا الحالتين لا يتعدى بصري موضع سجودي حتى لا أحسَّ بشيئ حولي، وتكون يداي أعلى صدري، فهذا أجمع للفكر والخشوع.. فإن كنت منفرداً أطلت القيام والركوع والسجود والجلوس الأخير معادلاً بين أحوال الصلاة في المدة الزمنية بقدر ما تسمح به مدة الدعاء المشروع إلا القيام والسجود وما بعد التشهد الأخير فلا حدَّ له إلا بمقدار ما تنصب وتتعب، وإلى لقاء بحول الله.
الهوامش:
(1) قال أبو عبدالرحمن: جائزٌ أَخْذُ الفعلِ من اسم (الأرشيف) ؛ لأنه لما عُرِّب صار ملكاً للغة العرب.. وليس هذا نحتاً، ولكنه تحوُّلٌ إلى صيغة (وزن) موجودة في اللغة.
(2) قال أبوعبدالرحمن: الأفاويق جمع فَيْقَة، وهي ما اجتمع من الماء في السحاب على التشبيه بفُوَاق الناقة، وهو رجوع اللبن في ضرعها، واستُعيرت لقِصَر المدة ؛ لأن الفواق رجوع اللبن شيئاً بعد شيئ، ولهذا أُثر في الحديث: (أتفوَّق القرآن شيئاً بعد شيئ) أي لا أقرأ الجزء مرة واحدة.. والأحاديث التي يرويها اللغويون عزيزة التخريج تحتاج إلى ذوي اختصاص مثل اختصاص الذين حققوا مسند الإمام أحمد رحمه الله في خمسين مجلداًَ رحم الله ميتهم ومتَّع بحيِّهم ورحمه.. والصواب مجلداً ؛ لأن المراد الجزء المجلد، ولو قيل: (مجلدة) لكان المراد أن كل الأجزاء في جلد واحد.
(3) الإيضاع: حمل الدابة والنفس على العدو السريع، وهي مجاز من (وضع) اشتق منها كل أمر غير محكم؛ فغلب الإيضاع على خبط عشواء.. وأما الإرقال فالمحقَّق عندي أن الأصل فيه تتابع حركات يحصل بها الصعود ؛ ولهذا سُمِّي الكرُّ (وهو الحبل الذي تصعد به إلى حِجْر نخلة عالية تُسمَّى رَقْلَة) راقولاً، وشُبِّه بذلك تتابع حركات يتحقَّق بها قطع المسافة وإن لم يكن عن سرعة بخلاف ما ظنه اللغويون من كون الإرقال للسرعة، ثم تكون السرعة بعد ذلك مجازاً؛ وإنما الإرقال نوع من السير فوق الخبب، والخبب ليس سريعاً، ولكنه إيقاع حركات متقاربة كل إيقاع من حركتين متساويتي الكَمِّ والمسافة.. ثم توسَّعت المادة في عامية نجد بجعلها اسماً للفراغ وحكاية صوت كقولهم: (جاء فلان يرقل) أي تسمع حركته في مَشْيه وليس معه شيئ، ثم توسَّعوا بها للاهتزاز وعدم الثبات؛ فقالوا: (ضرس يرقل) أبي يهتزَّ مؤذناً بالسقوط.. ثم توسعوا بها لتقليب الشيئ ؛ فيقولون مثلاً: (ارقل المراصيع) أي اجعل عاليها سافلها؛ ليختلط بها الإدام من دهن وحليب وبصل.. إلخ.
(4) قال أبوعبدالرحمن: الهشاشة انقياد عن ارتخاء ولين، ومن ذلك طلاقة المُحيَّا.
(5) قال أبوعبدالرحمن: نبهني الشيخ علي إدريس جزاه الله خيراً إلى أن القصة لبلال رضي الله عنه كما في جامع الترمذي: حدثنا الحسين بن حريث أبوعمار المروزيُّ: حدثنا علي بن الحسين بن واقد قال: حدثني أبي قال: حدثني عبدالله بن بريدة قال: حدثني أبي بريدة قال: أصبح رسول اللهفدعا بلالاً فقال: (يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟.. ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي).. فقال بلال: يا رسول الله: ما أذَّنت قط إلا توضأت عندها ورأيت أن لله عليَّ ركعتين.. فقال رسول الله: (بهما).. قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب - جامع الترمذي ص839/ طبعة دار السلام للنشر والتوزيع/ ط2 المحرم 1421هـ/ طبعة خاصة بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني رقم الحديث (3689).. ووردت القصة عند مسلم بلفظ (يا بلال: حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة ؛ فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يديَّ في الجنة).. قال بلال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل أو نهار إلا صلَّيت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي.. صحيح مسلم حديث رقم 6324 ص1081 /باب من فضائل بلال/ طبعة دار السلام للنشر والتوزيع طبعتهم الثانية المحرم 1421هـ.
قال أبو عبدالرحمن: وأضيف أن القصة وردت عند البخاري في باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار قال: حدثنا إسحاق بن نصر: حدثنا أبوأسامة: عن أبي حيان: عن أبي زرعة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبيقال لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام ؛ فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة).. قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهَّر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.. صحيح البخاري /دار ابن حزم للطباعة والنشر/ طبعتهم الأولى عام 1424هـ رقم الحديث (1149) ص200 .
(6) قال أبوعبدالرحمن: الباطيَّة وعاء خمر.
(7) قال أبو عبدالرحمن: الصير من استعمال العامة، وهي صحيحة مجازاً، لأن صيغة (فِعْل) للاسم من صار، وبفتح الفاء للمصدر.. وصير اسم لما صار إليه الشيىء من المآل.. وصير الباب الحفرة السفلى لعمود الباب من يسار، فالباب يصير إليها عند فتحه وإغلاقه، ولهذا يكون تراب الصير دقيقاً جداً كتراب المَرَاغة.. وفي الفصحى فالصير لمطلق شق في الباب، وصير الباب له صوت حكايته (صَرِير) إذا لم تُعمَّق الحفرة ويُرشُّ تُرابها بالماء، وقد لوحظت حكاية الصوت في (الصِّيار) بالصاد المشدَّدة المكسورة المهملة، وهو صوت الصنج.
(8) قال أبوعبدالرحمن: إذا كان الأب غير مباشر وجب إثبات ألف (ابن).
(9) قال أبوعبدالرحمن: العجرفة في لغة العرب الفصحى بمعنى الجفوة في الكلام، واللفظ منحوت من (جرف) و(عجر) بمعنى عَقَّد، ثم توسعت بها العامة للمزاح بعلاقة المراد؛ كأنهم يريدون بالجفوة الممازحة.
(10) قال أبوعبدالرحمن: ألبتة اسم ناب عن المفعول المطلق على نِيَّة حذف الفعل، والتقدير لا أُساوم ما أُبتَّ ألبتة ؛ فناب اسم ألبتة عن الفعل المطلق؛ لأن أصل الأبت المقطوع؛ فلما جُعل اسم (البتة) بلا همزة للمرة الواحدة الدائمة بمعنى الأبد استحقت بالتضمين قطع الألف.. أي همزها.. هذا ما يتعلق بالإعراب، وأما همز ألف (البتة) فقد حكى سماعها عن العرب الصاغاني في العباب والدماميني في شرح التسهيل، وتابعهما جمهور من اللغويين وهما ثقتان رحمهم الله جميعاً.. وليس وجه همز ألف ألبتة على أن معنى (أل) وأصلَها الألفُ المهموزة كما عند ابن جني، ولا على وجه همز ألف اسم الجلالة (ألله) كما في قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لتسمَعُنُّ وشيكاً في ديارهمُ
ألله أكبر يا ثارات عثمانا
فذلك ميزة للاسم الكريم الذي لا يطلق إلا على الرب سبحانه.. وشاع اسم (الله) بالألف غير المهموزة ؛ لأنه شاع إطباقاً استعماله لله وحده سبحانه ؛ فاستغنوا عن الهمزة مع جوازها ؛ وإنما وجه ذلك أن (ألبتة) نُقِلَت بتخصيص (ألبتة) لمعنى الأبدية الدائمة ؛ فإذا أردتَ المرة الواحدة من (بتَّ، وأبتَّ) لم تهمز؛ فلما كانت بمعنى الأبدية اكتسبت قطع الهمزة.. قال الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: (أبتَّ فلان طلاق فلانة)، وقال الكسائي رحمه الله تعالى: (كلام العرب أْبتَتُّ عليه القضاء)، وأهل الحجاز يقولون: (بتَّ).. انظر ديوان الأدب للفارابي (-350هـ) رحمه الله تعالى 2 /153، ومقاييس اللغة لابن فارس (-395هـ) رحمه الله تعالى 1/ 170؛ فمعنى أبته جعله مؤبَّداً، والهمزة في الأفعال تفيد عموم نقل المعنى ومنه التعدية، فلا عجب إذا أفادت التسمية فيما نقل معناه؛ فأصبح ماكان نائباً مناب المصدر اسماً، وإنما امتنعت همزة الأسماء في أسماء لا تتعدى عشرة أسماء ليست مما يعمل عمل الفعل كالمصدر مثل ابن واسم.. ويدل على معنى التأبيد قول الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى عن ألبتة: (غير أنه مستعمل في كل أمر يُمضى ولا يُرجع فيه).. ووقع بيدي رسالة نفيسة بعنوان (استدراك الفلتة على مَن قطع بقطع همزة ألبتة) للعلامة أحمد المأمون البلغيثي (- 1348هـ) رحمه الله تعالى، وقد نشرت في مجلة (آفاق الثقافة والتراث) في العدد (33) عام1428هـ بتحقيق الأستاذ عبدالقادر أحمد عبدالقادر، وقد أجاد البلغيثي وأفاد واستوعب، ولكن فاته وجه التخصيص بالاسمية، ولم يدفع الأصل في رواية العدول عن العرب.. كما أن ذهاب جمهور علماء اللغة إلى همز ألف ألبتة لا يُسَمَّى فلتة!!.
(11) قال أبوعبدالرحمن: الصواب ضمير المذكر؛ لأنه يسمى ضمير الشأن.
(12) قال أبوعبدالرحمن: معنى (مِدْباس) عامي عند الجمهور، وهو وصفٌ لرجل يطأ الأرض بعنف في حلك الليل الداجي لا يخاف.. مأخوذة من الدبابيس جمع دبوس بمعنى مقامع الحديد الثقيلة ؛ فَخُطَى المدباس تؤثر في الأرض كأثر الدبابيس.. والدبوس تعريب (دبوز) بالزاي، وقد جاءت في شعر لقيط بن زرارة من أهل السليقة.. وتوسعوا بها للدبوس والدباسة - إن لم تكونا مُعَرَّبتين -؛ لأن لهما تأثيراً بالثقب وإن كان أقل من تأثير المِعْول.. ولصحة (مِفعال) صيغة، وصحة الاشتقاق من مُعَرَّب استعمله الفصحاء أرى صحة (مدباس) لغةً للمعنى الذي أسلفته.