تعجبني قفشات بعض الصغار، فهي تكشف لي كم نحن الكبار أغبياء، وإن أردت أن تُحسن العبارة يمكنك القول كم هم أذكياء ونحن لا نعلم، أو على الأقل تنبه الغافل منا إلى وجوب احترام عقلية الطفل أياً كان ومهما صغر، فهو وإن رضي واستسلم وأسكت إلا أنه في قناعته الداخلية قد يكون غير ذلك تماماً، وقد لا يظهر الأمر إلا بعد أن يكبر فيذكرك بما كان في سبق عهده، صلوحي هذا -محل حديثنا اليوم- عمره قرابة الثلاثة أعوام، له قفشات عده دائماً نكتفي نحن الكبار إزاءها ومثيلاتها بالضحك وهز الرؤوس، آخر قفشات هذا الصغير، الأسبوع قبل الماضي حفظّته أمه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمك، أمك، أمك، أبوك) وصارت تسأله كثيراً: ماذا قال الرسول، فيردد الصغير ما حفظ، وهي تضحك، عرف أن هذا الأمر يحلو لها ويوظف من قبلها لتلبية رغبة داخلية عندها، فصار إذا لم يكن راضياً عنها لأي سبب من الأسباب يرد عليها، (أبوك)، متغافلاً عن الكلمات الثلاث الأولى، ليس هذا فحسب بل إنها سألته الأيام الماضية، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتهيأ لدخول حلبته المحببة لنفسه ومعركته التي يستهويها مع الماء الدافئ، رد على الفور، (اسبحوا).. هذه الحكاية على بساطتها تعطينا دلائل تربوية وتعليمية عالية، لعل من أهمها ألا يكون تعليمنا للنصوص تعليماً مؤسساً على الانتقاء المبني على الرغبة والهوى ومتكئاً على حسب ما نريد نحن أن نوصله إلى أذهان الجيل لا ما هو بحاجة حقيقية له، نختار الأحاديث التي تخدم التوجهات بدلالتها العامة ونسقط عليها الواقع الذي نحن فيه مع وجود أحاديث في الباب تختلف عنها في الدلالة وإن كانت مماثلة لها في الصحة وربما أقوى سنداً ومتناً ومع ذلك كثير منا لم يسمع عنها من قبل، ولو ذُكرت أمامه في جلسة عارضة لنفاها أو ضعفها ظناً منه أنه من أهل الحديث، إن الاصطفاء المبيت الذي مارسته هذه الأم، واختيارها هذا الحديث ليكون أول حديث تحفظه صغيرها هو نفس السلوك الذي تمارسه بعض القنوات الإعلامية مثلاً مع مشاهديها، أو كاستشهادات المفكرين والمثقفين في كتاباتهم وقل مثل ذلك عن المربين والدعاة، ولاحظت هذا الأمر بشكل واضح في رسائل الجوال التي تأتي بالاشتراك مع مؤسسة ما فهي تركز على أحاديث بعينها وتلحظ أن لها هدفاً خفياً من هذا التركيز، نعم أعلم أنه من المستحيل قراءة جميع الأحاديث وإقرارها في المدارس، وأعلم أنها تختلف قوة وضعفاً سنداً ومتناً، وأعلم أنها من حيث الأهمية والارتباط بالحياة المعاش للإنسان تختلف قرباً وبعداً، ولذا لابد من الاصطفاء، ولكن هذا العمل (الاصطفاء والاختيار) يحتاج -في نظري- إلى معايير وضوابط تتلاءم والاحتياجات الحقيقية لمن سيتلقاها حتى ولو كان صغيراً، وألا يكون الاختيار بناء على ما نريد نحن (وافق هوى في النفس أو رغبة سياسية أو تطلعات ذاتية أو ما إلى ذلك)، لقد عرف صالح أن الاختيار لهذا القول جاء على أساس رغبة ذاتية من الأم وصادف هوى في نفسها، هذا إذ كان يعرف من الرسول صلى الله عليه وسلم ولديه يقين أنه قال هذا الحديث، ولذا الأمر بسيط بالنسبة له (نسج قولاً يتلاءم مع ما يحب ونسبه لمحمد صلى الله عليه وسلم) (اسبحوا).. وإلى لقاء والسلام.