قال لي صاحبي: سمعت حديثك التلفازي في القناة الأولى في برنامج جلسة مصارحة عن أهمية العقل السليم الواعي في بناء المجتمعات البشرية الصالحة، وربطت في حديثك بين العقل السليم والإيمان، وجعلت هذا الترابط بينهما أساساً من أسس بناء الحضارات البشرية المستقرة، وأكثرت من ضرب الشواهد والأمثلة في هذا المجال ولكنَّ سؤالاً خطر ببالي وأنا أسمع حديثك، وظلَّ يُلحُّ عليَّ حتى دفعني إلى مهاتفتك وطرح السؤال عليك، فهل تأذن بذلك؟ قلت: نعم.
قال: هنالك حضارات بشرية قامت على عقولٍ واعية ناضجة، وقدرات بشرية كبيرة، وليس لأصحاب تلك العقول من الإيمان الصحيح بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله نصيب، فكيف نجمع بين قولك وبين واقع تلك الحضارات البشرية؟
قلت لصاحبي: لعلك تذكر أنني تحدثت في ذلك اللقاء التلفازي عن الفرق بين العقل الغريزي، والعقل الاكتسابي، ونقلت بعض أقوال العلماء في هذين العقلين، وقد اتفقوا على أن العقل الاكتسابي يتكوَّن من خلال ثقافة الإنسان، وسعة اطلاعه، وتجاربه وخبراته في الحياة، وأنه كلما عُني الإنسان بنفسه قراءة وثقافة واطلاعاً ومشاركات مختلفة في مجالات الحياة، وسفراً للفائدة، ومحاورات مع الناس، ازداد نموُّ عقله الاكتسابي، وزادت قدرته على التفكير السليم، في التعامل مع الحياة وما يجدُّ فيها، وفي وضع الافتراضات الصحيحة التي توصِّل إلى نتائج صحيحة، وهذا العقل بهذا المعنى ليس وقفاً على أحدٍ من الناس، لأنه عقل مكتسب قائم على جهد الإنسان وسعيه وجدِّه في الحياة، وطموحاته فيها، فمن توافرت لديه عوامل تكوين هذا العقل، توافرت لديه القدرة على الإبداع، والعطاء، وسلوك طريق النجاح في أمور الحياة المختلفة -بإذن الله عز وجل-، وعلى هذا تقوم مصالح الناس في حياتهم ومعاشهم، وأمور دنياهم، وهذا ما نرى له صورة واضحة في نتاج العقول البشرية الناضجة في مسيرة المدنية الغربية المعاصرة التي فتحت -بإرادة الله وتقديره وتيسيره- هذه الآفاق الرحبة للتطور والتقدم الماديين في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة والهندسة والطب ووسائل الاتصال وغيرها من المجالات التي تندرج تحت معنى قوله تعالى: (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
ولكنَّ هذه العقول البشرية المتألقة في جوانب الحياة المادية لا يمكن أن تبني حياة بشرية متوازنة حرَّة كريمة متِّصلة بالفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ما لم تكن متصلة بالإيمان اتصالاً وثيقاً، ولهذا فإن هذه العقول المبدعة في مجالات الحياة الدنيا، سرعان ما ترتكب من الأخطاء الشنيعة في حق البشرية ما يجعل الإنسان يقف أمامها حائراً منبهراً.
وهذا هو المعنى الذي أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فهم علماء في مجالاتهم المختلفة ولكنه علم ناقص لأن العقل الذي حمل هذا العلم يرى بعين واحدة، ويسير برجل واحدة، ويمد يداً واحدة فهو عقل مشغول عن الإيمان بالله، بما يبدعه من شؤون الحياة الدنيا، يصنع الطائرة، ويقودها مخموراً، ولا يتورَّع عن استخدامها في قتل الأبرياء وترويع الآمنين، ولا يجد غضاضة في أن يحمل فيها مئات الأطفال المختطفين من أهلهم، متجاهلاً مشاعرهم ومشاعر آبائهم وأمهاتهم، لأن عقله المعتم أرشده إلى الاستفادة منهم في مشروعاته المادية الدنيوية، ولم يرشده إلى احترامهم ومراعاة إنسانيتهم وحريتهم، وحقهم في الحياة الكريمة، وهكذا دواليك وقد دلَّنا القرآن على هذا المعنى في مواقع متعددة، ومثال ذلك قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).. فهذا قول من كانوا في عُرف الناس من عقلاء الدنيا، وكانوا بعقولهم يحققون مصالحهم في حياتهم الدنيا ويبدعون في هذا المجال إبداعاً مشهوداً، ولكنهم كانوا من أبعد الناس عن الإيمان بالله الذي يحول بينهم وبين الظلم والاعتداء والكفر بالله عز وجل، لقد كانت عقولهم قادرة على إدارة الحياة الدنيا في جانبها المادي الصِّرف، ولكنها كانت عاجزة تماماً عن إيجاد التوازن بين مطالب الروح والجسد، والدنيا والآخرة، ولهذا فإن البشرية قد شقيت ولا تزال تشقى بهذه العقول المبدعة في الحياة إبداعاً مادياً لا علاقة له بالإيمان واليقين وتحقيق التوازن بين جوانب الحياة المختلفة.
لقد أخبرنا القرآن - كما رأينا في الآية السابقة من سورة تبارك - أنَّ أصحاب هذه العقول التي لا ترتبط بالإيمان يدركون تمام الإدراك أنهم لا يعقلون، أي (لا يملكون العقول الواعية) بدليل أنهم قد أصبحوا من أصحاب السعير خالدين فيها أبداً، وما قيمة عقل بشري يُوصل صاحبه إلى النار وبئس المصير.
هذا يا صاحبي ما أردت بكلمة (العقل الواعي) المرتبط بالإيمان بالله عز وجل.
إشارة
يقول تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ).