شغل موضوع الأمن الفكري، وكرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري حيزاً واسعاً ومساحة ورحبة في الإعلام والصحافة السعودية.
ومن سخرية القدر أن ذلك الكرسي يقام في جامعة ما زال يعاني طلابها من خوف وحصار فكري من قبل (المحاضرين والدكاترة) الذين لا يقبلون الرأي والرأي الآخر، فإن لم تكن معهم فأنت بالطبع ضدهم ولا أعمم.
أنا شخصياً قبل أن أدخل الجامعة لم أستطع أن أصدق أنك حين تختلف مع الدكتور في نقطة ما حول الدرس مثلاً، فإنك قد ترسب في المادة ظلماً! إلى حين دخلت الجامعة ورأيت وعاصرت قصصاً فيها من الظلم والقهر والصمت الشيء الكثير، المضحك المبكي أن الدرس الأول الذي يحرص طلاب المستويات المتقدمة أن يهدوك إياه كنصيحة تساوي جملاً، أن تحذر كل الحذر من مخالفة رأي أي محاضر، بل يجب أن تعلن الولاء والطاعة والقبول الكامل لكل ما يصدر عنه من فعل أو قول أو عمل!!
الأدهى من ذلك والأمر أنك يجب أن تمثل وتتجمل، ولكي أكون أكثر دقة (تنافق) حتى تكسب رضى الدكتور وبالتالي تضمن نجاحك في المادة التي لن تجتازها بعرق جبينك وتعبك، حيث إن ذلك لم يعد يكفي، بل إنك قد تضطر إلى إهداء المحاضر هدية (محرزة) للتخرج وكلمات كاذبة لتنجح!
فتروي لي إحدى طالبات الجامعة بألم قصتها مع إحدى الدكتورات العربيات.. التي كانت تعطيها مادة التخرج، لم تكن تلك الطالبة تعلم ما يدور في كواليس غرف الدكتورات وعقولهن.. لكنها عملت جاهدة على اجتياز المادة بتفوق، حيث إنها بذلت مجهوداً مضاعفاً وسهرت وانعزلت عن المجتمع والناس كي تتخرج بمعدل مشرف يرضي هاجسها بالتفوق والتميز.
قدمت الامتحان وأجابت عن كل الأسئلة وخرجت برضى وثقة بالنجاح وحين اتصلت على الدكتورة لكي تطمئن على نتيجتها فوجئت أن الدكتورة تقول لها وهي تتصنع الحزن.. أنا آسفة لن تتخرجي هذا الترم، أريني ماذا تستطيعين أن تقدمي لأنجحك؟! فهمت أختنا العزيزة (الطبخة) ولم يكن لديها أي استعداد لتأخير مشروع تخرجها فلزمت خيار الصمت وأُجبرت أن تقدم هدية عليها القيمة للدكتورة!! وفعلاً نجحت ولكن ليس كما حلمت أن تنجح بل تخرجت بمرارة مثل كثيرات غيرها صدمن بالواقع ومن ثم خضعن مجبرات لا بطلات لقوانين تلك الألاعيب المخزية والقذرة.
أنا لا أبالغ بل إن مقالي هذا جزء لا يذكر من واقع مؤلم يحدث كل يوم في أروقة جامعات المملكة، هناك قصص يندى لها الجبين، ومآس لا تنتهي لطلاب اعتدوا للحظة أن الجامعة هي المسرح الرحب والعالم الذي ينبض بالنضج والحرية ومن ثم صعقوا وأدركوا أنها مرتع للقمع والكبت والقهر.
الآن فقط أفهم هذا التشابه بين مسمى دكتور ودكتاتور!
لماذا تغتال قناعاتنا عند أول إعلان عن وجودها؟!
ولماذا تهزم رغبتنا بالحوار والنقاش شر هزيمة أمام خصم يصر أن يحول الاختلاف إلى خلاف وحرب غير متكافئة بالقوة كحرب بين أسد وشاة؟!
ولماذا تغتال آراؤنا في مهدها؟ فنتخرج مسلوبي الآراء مشبعين بالقمع والكبت والخوف، نتقن لغة المجاملات والكذب، معتقدين أننا سنحتاج إليها لا محالة في مستقبلنا الوظيفي، فمن يعيش أو يعاصر تلك التجارب المؤلمة لا بد وأن يعممها على العالم والمحيط من حوله.
لمسؤولي الجامعات أقول.. إغماض العين عن الحقيقة لا يعني غيابها، وحان الوقت أن تلتفتوا إلى هذه التجاوزات الخطيرة وتسنوا القوانين وأقسى العقوبات للأساتذة كما الطلبة، وتزيدوا من مستوى الرقابة عليهم.. وقد يتساءل أحد مسؤولي الجامعة: لماذا لم تذهب الطالبة التي ظلمت للجنة حقوق الطلبة وترفع شكوى؟ لأنها باختصار شديد: لن تصل إلى المسؤولين، وإن وصلت فلن يتغير من واقع الأمر شيء. لهؤلاء المهتمين بدراسة الأمن الفكري.. تفضلوا بزيارة الجامعة وستسمعون مئات القصص التي ولدت مجتمعاً خائفاً ومضطهداً فكرياً، لم يشعر بلذة الأمان والحرية يوماً فلا يستطيع أن يعبر من لا يشعر بالأمان.
أخيراً لكل محاضر وأكاديمي.. حمل رسالة التعليم وخانها، وشرفه الله بتسهيل طرق الناس إلى الحياة والجنة فلوث الطريق والمهنة والفكر وسبب عقدة لا تزول لطالب لم يرد شيئاً سوى شهادة يرفع رأسه بها ومستقبلاً يحييه حياة كريمة أقول.. على الظالم تدور الدوائر، وكما تدين تدان، وإنه جل جلاله يمهل ولا يهمل.. وتذكروا أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الجبار حجاب، فخافوا الله في أمانتكم ولا تحسبوا أن الله غافل عما تفعلون، إنما يؤجله ليوم تشخص فيه الأبصار. والله ما وراء القصد.
نبض الضمير: (من أساء الأمانة في القليل، أساء الأمانة في الكثير).