إيران تسير بممرات ودهاليز لا أول لها فيها ولا آخر، بل تركض من عدم إلى آخر سواه، تبحث عن قرميد ولآلئ وبلور وكريستال وماء وعشب أخضر ووردة حمراء، تطيل النظر للسفوح العالية، ترمق أفقاً مفتوحاً تتزاحم فيه الأنجم، لليل عندها بروق معفرة بالوجل، وللنبوءة
عندها لون الرماد، لصوتها نبض هادر، لكنها ترمي حكمتها في لهيب الغطرسة، تبحث عن عشبتها الصغيرة اليانعة في مجاري السيول الكبيرة، تحاول ترقية نفسها بتنهيدة فراشة، لكنها لا تعرف بأنها تحرق نفسها بنيران الحطب المتوقد، عبثاً تحاول إيقاظ اسمها في الشوارع والبراري والمحطات، باستماتة تزرع البذور، وبعناد العناد تمنح نفسها هبة لنار الأعاصير القادمة برقصة غير بارعة وغير ذات صهيل، إيران ليس لها شمس دافئة ولا فصول تلمع برائحة الأماني، لا نبض للحياة فيها غير الخريطة بين الولادة والممات، إيران تتدثر بعزلتها في أقبية الليل الطويل، تحاول أن تضاجع السحابة، لكنها لا تقوى على الحراك الجميل، تستميت في أن تنحت اسمها وتركل إلى الخلود في شهوة محيرة، لكنها تتعرى من لحاء نقيضها وجرتها المليئة بالفجيعة وبالنعاس، لرغباتها الجائعة تلوث، تحاول بعجز نسف الأمكنة، لها مسرحيات هزيلة وإشكاليات بائنة وقصص محزنة وروايات لها لون السواد، مع كل الأطياف العالمية، لا تحاول أن تصحو من غفوتها ولا تحاول أن تعود إلى رشدها أو أن ترمي الماضي المؤلم خلف ظهرها لكنها تصر أن تكون حمالة للغدر والدمار والخراب وفاتحة للنهايات الخطيرة، أبوابها موصدة ولها انزواءات مثل عنكبوت ينسج أحلاماً كبيرة قد تشل أيامه الآتية، تتحرك بصوت ملوث يشبه صوت ريح أعاصير قادمة، لكنها بلا رشاقة ولا حذر، إيران تتخيل بسقم، وتحلم بفاكهة رمان وماء عذب ونيزك يشع بهاءً وبريقاً، وحناء تشبه حناء النساء الجميلات، مفتاح الحل بين يديها لكنها لا تحدق بحدة، في عينيها غبش وبعض ماء أزرق لا يقيس بدقة بعد المسافات، تضع نفسها أمام النوافذ الكبيرة لتصفعها الرياح العاتية بقوة وبلا هوادة، التمييز يصعب عندها بين الرغبات الجامحة والأحلام المنفية، لا شيء يزعجها غير تلك الأصوات المروعة التي تديم زخم القلق على هيكلها الزجاجي الراقد في الحدائق الخلفية العتيقة، حتى نز جسدها بالكثير من العرق والخوف، شتلة الورد الأبيض التي غرستها قبل سنوات لم تمت لكنها شاخت، لأن أرضها طفحت بالملوحة حتى صارت بلا خصوبة، لديها المحراث الذي يقلب الأرض، لكنها لم تتأمل يوماً خيوط البخار الصاعد تواً من الأخاديد البيئية الداكنة المنتفخة مثل جرح، أبخرة الرغبة المودعة في جوفها لها رائحة غير نقية لأن الهواء الناقل لها بغيض، فشلت كل محاولاتها لإنتاج التفاح والورد وأعواد القصب، وأخذت تزرع براعم صغيرة مبهمة خطيرة في أول الربيع سرعان ما سوف يدهمها الشحوب، يأتيها من الأعلى بهبوط بطيء حتى يتمكن منها فتصبح مجرد عيدان رقيقة مغروسة في أرض بوار، إيران على الرغم من هذا تحاول أن تصطنع فجوة من اللامبالاة الذي هو شيء آخر لا علاقة له بتركيب الأدمغة وقوة الذاكرة، إيران حتماً ستشيخ مثل شجرة ورد حتى لا يعد هناك زهور بيضاء ولا زوار منتظمون، ولا فراشات ملونة صغيرة ولا نحلات، وحدها إيران ستخفق بأجنحتها مرة أو مرتين أو ثلاثة وبعدها ستتقبل قليلاً من العزاء، ستكون مواساة لطيفة لمواسم ضجيجها المر، هكذا تبدو الأمور، المحزن أن لا أحد في إيران يفكر بغرس شتلة ورد نقي، بقدر ما هم منشغلون بزراعة أشياء أخرى غامضة يصعب تخيلها، يفكرون كثيراً بإعادة حرث تربة هذه النبتة البغيضة يقلبون تربتها ولا يحاولون أن يجعلوها تتنفس هواءً جديداً، ثم يحاولون تقليبها كي تصبح في نظر الآخرين ناعمة تحتضن الشتلات، اكتشفوا أن هناك أعداداً لا تحصى يمكن استنباتها حتى في ظروف المناخ الصعبة يمكن الاستعانة ببيت زجاجي يحميها، لقد شرعت إيران بالإعداد لبناء هذا البيت التي أعدت تصاميمه وكلفته مستعينة ببعض الخبراء حتى يصبح العمل أقرب إلى الكمال مع أن ذلك يبدو صعباً للغاية في هذا المحيط القلق الذي يلفها من حدب وصوب، على إيران أن تفهم بأن الزهور لا تطالب أبداً بثمن للبهجة التي تشيعها، وأن يكونوا حذقين لأن ما زرعوه يعد خطأً فادحاً بوسع المرء أن يتلمس بتفرد هيكله الخارجي وله ثمن، أن ثمة أشياء أكاد أحسها يشيعها العبث الإيراني في قلب حديقتنا العربية، عبث مليء بالفطريات والعناكب وبعض الأمراض الخبيثة المستعصية، قد يبدو كلامي ملغزاً أكثر من ذي قبل ربما لأن الفجوة الصغيرة بدأت موجاتها تضرب جدران غرف نومنا وعلينا أن نترك البلاهة والخدر والتراخي وحتى لا نسقط في إغواءات الجراحات العميقة والتجميلية، علينا أن ننصت لدواخلنا في لحظة هادئة بمشاعر متوازنة بما يكفي لاكتشاف تلك الحكمة الخجولة المتوارية خلف أقنعة التوتر السائد، حينها سنكتشف أن اليقظة واجبة وأن التفاؤل المفرط حتماً يتماهى مع الثرثرة، إن الأمر يستحق أن نشقى قليلاً من أجله حتى ننام ساعتها بهدوء وسلام ودعة كما ينام الأطفال وحتى لا نحفر حينها أنفاقاً في أرض السهاد الطويل.
ramadan.alanazi@aliaf.com