على الرغم من الإيمان العميق، على مرّ التاريخ الإنساني، بأن المجتمعات البشرية تميل -في غالب الأحوال- للتلاقي والتكامل والتفاعل على كافة المستويات، بقي الهاجس الثقافي حاضراً لدى وعي النخب المجتمعية وبخاصة في دول (الجنوب)، كما هي التسمية التقليدية في أدبيات التنمية والعلاقات الدولية، مستعصياً على فكرة قبول (الآخر)...
.... وذلك، باعتبار أن الثقافة، عند كثيرين، خط أحمر لا يمكن اختراقه. وكانت دول الجنوب تتوجس خيفة من هيمنة دول (الشمال) عليها ثقافياً، وإن كانت قد رضخت لواقع الهيمنة الاقتصادية والسياسية. وكنتيجة طبيعية لتلك المخاوف، ازدهرت صناعة فكرية مناوئة للهيمنة الثقافية، وعملت الدول الأضعف على اتخاذ تدابير كثيرة للحيلولة دون اختراق الواقع الثقافي لشعوبها. ويمكن القول إن الدول والشعوب النامية نجحت إلى حدٍّ ما، ولعدة عقود مضت، في إثارة القلق الرسمي والشعبي تجاه ثقافة (الآخر)، حيناً بإثارة العاطفة الدينية، وأحياناً أخرى بأدبيات الخصوصية الثقافية. ومضت عقود النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين، في سجال محموم بين القوى الثقافية الدولية والحدود التقليدية الجغرافية والسياسية للدول النامية التي وقفت، بنسب متفاوتة، ضد تدفق المعلومات والأفكار من دول الشمال.
ولكن، مع انتهاء العقد الثامن من القرن الميلادي العشرين، بدأت المرحلة التقليدية لوسائل الإعلام والاتصال في التلاشي، وأصبحت المعلومات وتقنيات الاتصال الرقمية، تدريجياً، هوية جديدة للمجتمع الإنساني، وأدوات فائقة القدرة لبث المضامين واستقبالها. وتراجعت، تبعاً لتلك الحقيقة، الأدوار التقليدية للحدود الجغرافية والثقافية والسياسية، أمام سرعة تدفق المعلومات بين الأفراد والمؤسسات في دول العالم المتعددة. وقد بدا واضحاً أن العالم قد اتجه نحو إعادة صياغة مفاهيم كثيرة ذات علاقة ب(الثقافة) مع قناعة كاملة بأنه يلزم الآن النظر إلى أدبيات الخصوصية الثقافية بكثير من الحرفية ودعم القدرات الفردية والمؤسسية لتحقيق مستويات متقدمة من المنافسة المتخصصة، إذ لم تعد سياسات المنع والحجب صالحة على الإطلاق، ولم تعد أدبيات الانغلاق والانكفاء على الذات محل احترام الأجيال الناشئة، بشكل خاص، وهي ترى وتشارك وتتفاعل مع مجمل معطيات العصر الجديد للإعلام والمعلومات. من هنا، بدأت الحاجة إلى دخول معترك الإعلام الرقمي الجديد، الذي تقدمته صناعة شبكة (الإنترنت) بكل إمكاناتها الهائلة في البث والاستقبال. وبدأت تزدهر خدمات المواقع والمنتديات الإلكترونية المتخصصة للأطفال والشباب، كأحد أهم مجالات العمل على شبكة الإنترنت في الدول النامية. وتشير الملاحظة المتخصصة، إلى أن من أهم الوظائف التي تسعى مواقع إلكترونية كثيرة لتحقيقها في مجتمعاتنا، وظيفة (التثقيف) نظراً لأهمية حماية الجيل الناشئ ثقافياً، وترسيخ القيم والمبادئ الإسلامية لديه، وزرع الحصانة التي يحتاجها للتعامل مع العصر الجديد للإعلام والمعلومات. ولكن السؤال الأهم بقي حاضراً: إلى أي مدى يمكن الجزم بأن المواقع والمنتديات الإلكترونية الموجهة للأطفال والشباب في العالم العربي والإسلامي، قادرة على حماية جمهورها ثقافياً، وعلى إثارة انتماء الطفل وولائه لها؟.. من هنا، يبدو أن علاقة أطفالنا وشبابنا اليوم بوسائل الإعلام والاتصال الإلكترونية الحديثة علاقة محفوفة بتساؤلات كثيرة حول ما يفعل هؤلاء الأطفال والشباب بوسائل الإعلام والاتصال، ومن منظور مهم آخر، حول ما تفعل تلك الوسائل بنا وبأجيالنا الصاعدة. فمع ظهور ثقافة العولمة، ألقت (عولمة الثقافة) بثقلها على الوظيفة (التثقيفية) لوسائل الإعلام وبخاصة في مجال إعلام الشباب والطفل. وبدا أن مأزق (عولمة الثقافة) يتحدد في أن الدول حتى الآن على الرغم من مضي سنوات طويلة من ظهور إشكالية العولمة لم تحدد الأطر التي يمكن أن تتحرك فيها كما لم تحدد مساحة العام والخاص بالمقاييس الجديدة لمرحلة ثقافة ما بعد العولمة. كما أن مقاييس العولمة جاءت عامة لكل المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، وتلاشت معها حقيقة أن لكل مجال من هذه المجالات مقاييس خاصة. وبدأت الجهود التي تبذل عبر وسائل العولمة ذاتها، إنما يوجه الجزء الأكبر منها، في دولنا، لمكافحة تيار العولمة الجارف، ثقافياً، بشكل خاص، ولدى جمهور وسائل الإعلام من الأطفال والشباب بشكل أكثر تحديداً. ومن هنا، ظهرت، تبعاً لهذه الحقيقة حاجتنا لتفعيل الوظيفة (التثقيفية) لوسائل الإعلام والاتصال المتطورة، لتعمل ما عجزت عن عمله المؤسسة التقليدية المتمثلة في الأسرة والمدرسة والمسجد والأصدقاء ووسائل الإعلام التقليدية. وتحول الدور المؤثر والكبير في عملية تثقيف النشء من هذه المؤسسات إلى شبكة الإنترنت. فإضافة للمعلومات والأفكار، يجد الأطفال والشباب في الإنترنت متعة وتشويقاً من خلال التراسل عن طريق البريد الإلكتروني، والتخاطب مع الآخرين في غرف التخاطب والمنتديات، وما تقود إليه هذه المواقع من عوالم متعددة من المعرفة واللعب والتواصل مع نظرائهم من كل مكان حول العالم. والسؤال المهم الآن: إلى أي مدى تستشعر مؤسساتنا المجتمعية أن (ثقافة) أجيالنا الصاعدة، لا يمكن أن تترك دون حراك داخلي نكون (نحن) مرجعيته وتكون أدوات فعله متقدمة متطورة، تماماً كما هي حال أدوات الفعل الثقافي الذي نستورده فنستهلكه، فيفعل في أجيالنا الأفاعيل. ومن المؤكد أن هذه ليست دعوة للانكفاء، من جديد، على الذات. لكنها دعوة للمشاركة الفاعلة في سوق الثقافة العالمية بشموخ واقتدار.
alhumoodmail@yahoo.com