الإذاعة لا تزال هي العالم الذي لم تستطع يد التحول أن تمسه، أو تطوره، أو تلونه، أو تجعل منه أحجاما أو أنواع كما نرى في الكثير من وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، فقد ظلت الإذاعة صامدة - وهي لا تزال - في وجه كل ما من شأنه إقصاؤها، أو تحييد دورها بطريقة أو بأخرى.
فرغم أن الصوت والسماع هو المؤسس الوحيد لفاعلية الإذاعة ووجودها، فهي التي لا تزال فريدة في حضورها، ومشرقة في تكوينها السماعي الهادف، بل أن هناك من يقول أن مستقبلاً هاماً، وفتحاً مذهلاً ينتظرها، يتمثل في دراسات وبحوث ومشاريع عملاقة تبحث في تجميع الذبذبات الصوتية المنتشرة في الفضاء من حولنا منذ عشرات، بل مئات السنين، فالجهود لا تزال تبذل لجمع هذه الذبذبات وتكثيفها وبثها من خلال موجات الإذاعة القصيرة والمتوسطة لتكون مسموعة.
فإن صدقت هذه الرواية، ونجح هذا الحلم الإذاعي فسيهب للإذاعة المزيد من التألق والحضور، بمعنى أننا سنستمع لأصوات القادة القدماء، والعلماء والعظماء أو حتى البسطاء الذين عبروا منذ زمن وبقيت ذبذبات أصواتهم، كأن تسمع صوت عنترة بن شداد وهو يقارع الخصوم، والمناوئين، وتطرب لسماع قصائد المتنبي بصوته، أو تنصت إلى مقولات جحا وهو يهذي بصوته الطبيعي، فالعلم لن يتوقف في هذا الشأن، فقد أشير مراراً إلى أن هذه الجهود العلمية في مجال الأصوات قد انطلقت منذ سنين وهي لا تزال في طورها الأول.
فالإذاعة حَرِيَّةٌ بأن تكون نافذة للعالم بعد أن أثبتت وجودها، وأرَّخَتْ للكثير من التجارب الإنسانية الفريدة، فقد بزغت شمس الفن العربي من خلال الإذاعة، ولم تقف عند حدود رسالة الفن والطرب الأصيل، بل سمعت وهي تنقل نداءات الحروب العربية، وصوت الأخبار (هنا لندن) و(هنا القاهرة) وتوطدت علاقة المجتمع مع هذا الصوت الذي ينبعث بصدق ومباشرة حينما يبث الشعراء قصائدهم في ليالي الوجد والعناء.
وإثباتاً لدور الإذاعة في عالمنا العربي فالكثير من الفنانين العرب يؤرخون لتجاربهم منذ (دخولهم الإذاعة) وكأنهم قد تخرجوا من كبرى الأكاديميات التي تعنى بالإبداع في عصرها، كما أنها لا تقتصر على الفنان إنما على السياسي ومشروعه الخطابي، والمؤرخ الذي يقدم الحقائق، والاقتصادي الذي يبث رؤاه للعالم، وكذلك الراوية الذي ينقل الحكايات والأخبار ويذيع القصائد، فجميعهم تصيبهم نبال الشهرة ويحققون المجد من خلال الأثير.
فرغم مجيء التلفزيون، والإنترنت، وتطور وسائل الاتصال الأخرى ستظل الإذاعة قريبة من القلب، وحاضرة في الوجدان، وخير دليل هذه الجهود العلمية التي تسعى إلى تطوير دورها المعرفي والتاريخي.
Hrbda2000@hotmail.com