Al Jazirah NewsPaper Saturday  07/11/2009 G Issue 13554
السبت 19 ذو القعدة 1430   العدد  13554
رئيس لجنة الفتوى في منتدى السلفية:
خادم الحرمين الشريفين صاحب غيرة صادقة وجامعته هدية للعالم

 

الجزيرة - خاص

نوه الأستاذ الدكتور جاسم حمد المشاري رئيس لجنة الفتوى في منتدى السلفية بالهيئة العالمية للدراسات والبحوث الإسلامية، بإنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، واعتبرها هبة ثمينة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله للعالم الإسلامي والإنسانية.

وقال إننا في المنتدى استبشرنا خيراً بهذه الجامعة التي صارت حديث المجتمع العلمي على المستوى العالمي، ومن حق إخواننا الكرام في السعودية وكل مسلم أن يعتز بها، ويعتز قبل ذلك بالرجل الذي كان وراء هذا العمل الكبير المعروف بصلاحه وغيرته الصادقة وحرصه على نهضة أمته وشرفها.

وأضاف: بأن الملك عبد الله اشتهر في الوسط العربي والإسلامي بوجه خاص بأنه صاحب المبادرات الطيبة التي تفيض غيرة وحرصاً على مصالح الأمتين العربية والإسلامية، وقال إن الأمة الإسلامية أحوج ما تكون لمثل هذا الرجل الكبير الذي أمسك بمعقد ريادة الأمم فتوجه برغبة وطموح للأسلوب الصحيح للانطلاقة الموفقة، فعدة المعرفة هو أقوى سلاح مادي في هذا العصر الذي سقطت فيه أقنعة الكثير من المتباكين على مصالح الأمة، وتكشفت فيه ضحالة عقول وعلوم المصابين بالهلع من كل جديد والتخرصات والتعالم على غيرهم من علماء المسلمين، وجعلوا من هذه المخاوف وتغليب الظنون السيئة عقبة أمام لحاق الشعوب الإسلامية بركب العلم والحضارة والتفوق، هل ننكر أننا عالة على الآخرين، نعم هم غفلوا عن الآخرة، لكننا غفلنا عن العدة الدنيوية، لكل زمن سننه الكونية التي لا بد أن نأخذ بها، محققين عالمية ديننا العظيم.

وحول التخوف من أي التقاء عام بين الرجال والنساء لتلقي التقنية الحديثة التي لا بد لها من معامل ومخابر ووسائل إيضاح، تشرح للجميع على حد سواء كما في كليات الطب والعلوم الطبية والهندسة وغيرها خاصة في مراحل التعليم العالي التي تؤكد الحاجة الماسة لمثل هذه الإجراءات، قال: لقد تابعت نشأت الجامعة ولدي تصور كامل عن الموضوع، خاصة التحفظات التي حصلت من قلة قليلة لا تذكر، وبدوري أقول لكم لن يُخدش الحياء والعفة في منتديات العلم، ولإشباع الغرائز دور غير دور العلم والمعرفة وبالأخص في مستوياتها العليا يعرفها مريدوها، والقول باحتمال حصول المنكرات في الاختلاط في مثل هذه الجامعة في دراساتها العليا، ولها نظيراتها في الطب والمعامل والمخابر والمستشفيات، قول يجب إنكاره والأخذ على يد قائله إذا أساء وبلبل، وعلى أربابه المشنعين الخجل والاستحياء من القدح في نقاء المجتمعات الإسلامية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فإن لم يكن فحتماً سيخجلون ويتراجعون عن رفضهم المطلق قريباً وهم قلة في مجموع علماء الأمة، ويجب أن يعلموا أن ثوابت وركائز الدين لا قدرة لأحد عليها والتاريخ شاهد على هذا، فلماذا الشغب بالجهل على غيرهم، وفي الناس خير، ولن يقف الشر على مكان دون مكان، لكن دور تعليم المراهقين يحصل التحفظ على الاختلاط في بعضها خاصة المدارس الإعدادية والثانوية، ليس لأن الاختلاط في حد ذاته غير جائز لكن لأن المراهق قد لا يحفظ توازنه، وقد يسيء إلى غيره بطيشه وتسرعه وعدم تقديره لعواقب الأمور، وسهولة استدراجه خاصة الفتاة المراهقة.

وأضاف قائلا: يجب ألا نعيش في عزلة من أمرنا، وننطوي على أنفسنا، لقد والله اطلعنا على نصوص في الشريعة الإسلامية تتعلق بالاختلاط فوجدنا أشياء قاطعة في صحاح السنة، لكن الاجتماع والاختلاط لم يكن لأمور تترجح فيها الشكوك، ومن أقحم نفسه في هذه المتاهة سيجد ما تحدثه به نفسه تحت جدار الكعبة.

ولا شك أن أدلة جواز الاختلاط المحتشم سيل منهمر ومن حرمه من السابقين قصد قطعاً ارتياد الأماكن المشبوهة حيث يطلقون الاختلاط حُرمةً ويقصدون به هذا ويطلقونه جوازاً ويقصدون المجامع العامة في العبادة وغيرها كما في الأسواق وقضاء حوائجهم، ولا بد من التفريق، لكن أرباب العجلة والإغراض يحملون أقوال أهل العلم ما لا تحتمل ويأخذون منها ببتر وابتسار على غير مراد أهل العلم.

وقد نفى الدكتور يوسف القرضاوي وهو رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وجود لفظ الاختلاط في قاموس الشريعة، وكلامه صحيح، لكن لمزيد من الإيضاح نقيده بقولنا (في هذا المعنى)، وهو بالمعنى العام خليط لعدة معان في الحديث والفقه، وبالتالي ليس الاختلاط في المادة الفقهية معتمداً اصطلاحاً في نصوص الفقهاء كما هو حاصل في مثل: النشوز، والعضل، والعدة، وغيرها، ومعلوم أن الاختلاط كلمة تطلق وتنصرف على الفور لمعنى ذهني مصطلح عليه سلفاً، ولو كان نازلة فقهية لجاز قبول هذا المعنى الجديد، لكنه ليس كذلك، مما يدل على أن الموضوع تجاوز في تناوله الحد المقبول في الطرح، الأمر الذي جعل من بعض المصطلحات تتولد مع كثرة الطرح لها، وقال إن مانعي الاختلاط الذي تحدثنا عنه قلة قليلة في سواد علماء الأمة، وفرض الرأي ظاهرة خطيرة وباعثه هوى النفس، ويزداد خطراً إذا كان ثمن الدنيا مقصد الأخرى ومتى ضاق العالم من مخالفيه اغتر بعلمه وادعى العصمة ودخلت الشكوك في نواياه، وقد حذرنا التاريخ من خطر المواصلين المتدخلين في عمل الدولة بعد إبراء ذمتهم بما يرونه من الرأي الشرعي، وبعد إنهاء الخلاف باختيار ولي الأمر، ومن يواصل بعد هذا الحجة والحسم فهو (رضي أو لم يرضَ) مثير فتنة، وطالب سلطة، ولن يجد ما يسند به توجهه إلا في مفاهيم ولاية الفقيه.

وتابع الدكتور المشاري: ما أحسن ما جمعه باختصار جيد بعض الباحثين في تقرير هذه المسألة حيث قال وأنقله لك بنصه: هناك من يقول بأن الله حرّم الاختلاط حتى في أماكن العبادة، مستشهداً على ذلك بحديث واحد هو قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) الحديث، إن هذا الحديث يدحض الرأي الذي يقول به هؤلاء، فالحديث يثبت أنه حتى في أقدس مكان وهو المسجد، كان هناك اختلاط بين الرجال والنساء، ولم تكن هناك حواجز البتة، وجلّ ما قاله الرسول الكريم كلمة (خير)، وكلمة خير لا تفيد النهي أبداً في مفهوم أهل العلم الشرعي، وإنما تفيد أنه لا يصح أن يصلي النساء والرجال في صف واحد، وهذا بدهي لا يحتاج إلى استشهاد؛ ولكن يصح صلاة النساء في صفوف خلف الرجال من دون حواجز. ويؤكد ذلك قول سهل بن سعد: (كان الرجال يصلون مع النبي عاقدين أُزُرَهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى تستوي الرجال جلوساً)، وهناك رواية أخرى في (الصحاح) تقول: (كانت تصلي خلف رسول الله امرأة من أحسن الناس، فكان بعض الناس يستقدم في الصف الأول لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر تحت إبطه في الصف، فأنزل تعالى في شأنها الآية (ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين).

لا يوجد في الشَّرع نص واحد يحرّم الاختلاط، وفي جميع أماكن العبادة والشعائر الإسلامية الاختلاط جائز، ففي الحج أجاز الإمامان المالكي والشافعي للمرأة الحج مع نسوة ثقات من دون محرم، على رغم صعوبة الطريق، وبعد المسافات، والتعرض للأخطار الجسيمة، وفي الطواف أيضاً، فعن ابن جريج قال: (أخبرني عطاء - إذا منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال - قال: وكيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري، لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن؛ كانت عائشة تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين - وتقصد الحجر الأسود - قالت: انطلقي عنك، وأبت)، ومن الملاحظ هنا أن عائشة، رضي الله عنها، رفضت مزاحمة الرجال؛ لما لزوجات الرسول من خصوصية، بينما في المقابل قالت للمرأة إن تذهب وتستلم الحجر، ومع هذا فنحن ندعو أن تحضر المرأة التعليم العالي وتستمع المادة العلمية حجرة عن الرجال كما كانت عائشة رضي الله عنها، لأنها كانت في العموم في مكان واحد شمل الرجال والنساء، ثم إننا بلا شك ندعو المرأة ما استطاعت في الطواف وغيره أن تبتعد عن مزاحمة الرجال ما استطاعت، وحديث عائشة رضي الله عنها يؤيد أن الاختلاط كان يراد به القرب الشديد، وليس فقط اجتماع النساء بالرجال في المكان الواحدة لمقصد مشروع أو حسن مطلوب.

ولا يؤثر على هذا ما صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد، كما منعت نساء بني إسرائيل)، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قول عائشة لو رأى رسول الله ما صنع النساء بعده لمنعهن المسجد، كما منعت نساء بني إسرائيل). فإن عائشة كانت أتقى لله من أن تسوغ رفع الشريعة بعد موته صلى الله عليه وسلم، وإنما أرادت أن النبي لو رأى ما في خروج بعض النساء من الفساد لمنعهن الخروج. تريد بذلك أن قوله (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وإن كان مخرجه على العموم، فهو مخصوص بالخروج الذي فيه فساد، كما قال أكثر الفقهاء: إن الشواب اللآتي في خروجهن فساد يمنعن، فقصدت بذلك تخصيص اللفظ الذي ظاهره أنها علمت من حال النبي، أنه لا يأذن في مثل هذا الخروج، لا أنها قصدت منع النساء مطلقاً، فإنه ليس كل النساء أحدثن، وإنما قصدت منع المحدثات انتهى كلامه رحمه الله، ولا شك أن عائشة لم تمنع ذلك بفتوى وهي عالمة، أو تطلب من الخليفة المنع، بل اكتفت بهذه النصيحة ولم تزد، ومضت حال المسلمات على ارتياد المساجد دون منع، بالرغم من تحفظ عائشة رضي الله عنها، وهذا هو الفقه والعلم والحكمة، ولا يستغرب هذا التصرف الحكيم من أم المؤمنين عائشة، وقد نشأت في مشكاة النبوة ووعت أدب العلم وأهله، فهي لم تتابع وتصدر بياناً وتحرض الناس بالخطب والتهييج بالرغم من وجود القاسم المشترك وهو موضوع المرأة.

وتابع الدكتور المشاري نقله السابق قائلاً: لقد كان مجتمع المدينة المنورة قبل وفي عهد رسول الله مجتمعاً تختلط فيه النساء بالرجال، وتشارك فيه المرأة في جميع مظاهر الحياة الاجتماعية، وكان الرسول يرى في العرف القائم وقتذاك عرفاً صالحاً ولا حاجة لمخالفته، فأقره كما هو، ففي المدينة المنورة كان الرجال والنساء يتوضؤون من إناء واحد، فعن عبدالله بن عمر: (أن النساء والرجال كانوا يتوضؤون على عهد رسول الله من الإناء الواحد)، وفي لفظ آخر (ويُشرعون فيه جميعاً). وقد ذكر بعض المفسرين أن القصد من هذا الحديث هو الرجل وزوجه فقط؛ ولكن هناك أحاديث تنقض هذا التفسير، كحديث عبدالله بن عمر: (كانوا يتوضؤون جميعاً، قلت لمالك: الرجال والنساء؟ قال: نعم. قلت: زمن النبي؟ قال نعم)، أي أن وجه الاستغراب عند مالك يدعو للقول بخلاف التفسير، وفي حديث ابن أبي حازم عن سهل قال: (كنا نفرح يوم الجمعة، قلت لسهل: ولم؟ قال: كانت منا امرأة تجعل في مزرعة لها سلقاً... كنا ننصرف إليها بعد صلاة الجمعة، فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها). وورد في (فتح الباري) قصة الأسود العنسي والوفود التي كانت تنزل في دار رملة بنت الحارث ما نصه: (فكلام ابن سعد يدل على أن دارها كانت معدة لنزول الوفود.. وأن مسيلمة والوفود نزلوا دار بنت الحارث، وكانت دارها معدة للوفود)، وهذه الحادثة وقعت بعد آية نزول الحجاب بسنوات عدة.

جاء في (أخبار مكة) للفاكهي، وفي (أخبار مكة) للأزرقي أن أم بني أنمار كان لها دار تسمّى دار أم أنمار القارية، وكانت برزة من النساء، وكانت رجال قريش يجلسون بفناء بيتها يتحدثون، وأنها استقبلت النبي في مجلسها.

وروى مسلم في (صحيحه) (أن أم شريك كانت كثيرة الضيفان)، وقصة الجساسة وقعت في آخر حياة الرسول، لأن فاطمة بنت قيس ذكرت أنها بعد انقضاء عدتها سمعت النبي يحدث بحديث تميم الداري، وأنه جاء وأسلم، وتميم الداري أسلم سنة تسع للهجرة، أي بعد نزول آية الحجاب.

وفي (صحيح البخاري) عن سهل بن سعد قال: (لما أراد أبو أسيد الساعدي أن يتزوج أم أسيد، حضر رسول الله في نفر من أصحابه، وكان هو الذي زوجها إياه، فصنعوا طعاماً، فكانت هي التي تقربه إلى النبي ومن معه)، قال ابن حجر في شرح الحديث: (وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك).

استمرت الحال في عصر الخلفاء الراشدين على ما كانت عليه أيام النبي في مشاركة المرأة في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، فكل هذه صور واضحة للمجتمعات الإسلامية ولولي الأمر متى كان في بعض صورها ما لا يناسب بسبب توظيفه للفساد أو مظنته أن يمنعه ومن لم يمتثل يأخذ على يده ويحاسبه، وتقرير ذلك عائد لولي الأمر خاصة متى كان معروفاً بفضل الله عليه بحرصه على الفضيلة، والغيرة على الحرمات والأعراض والشيم والكرامة، وملوك المملكة والحمد لله حاملو لواء هذه الفضائل.

نعم هناك تخرصات وتجهيل وهذه بلا شك كثيراً ما تسيء لمؤسسات العلم الشرعي، لقد ولى عصر التقليد والانحطاط العلمي، وسيظل شرع الله عزيزاً مصوناً، ما بقيت دولة الإسلام ترعاه وتصفه بأنه دستورها الوحيد، ولن يكون لهذه التخرصات مكان إلا في الأنفس التي ترى أن الالتقاء العام بين الرجال والنساء لا يعبر إلا عن نية فساد من واقع سوء الظن بالناس، اتهاماً لهم، وتعدياً على سلطة ولي الأمر، وفي كثير منهم نزعة شر بفعل ترسبات وأمراض نفسية لا تقاد - مع بالغ الأسف - إلا بالحديد، منتقدين حتى مجتمع النبوة الطاهر والخلافة الراشدة.

ولا أخفيكم أن تأثرت من القول بمطالبة غير المسلمات بحجات المسلمات مع أمن الفتنة التي يقدرها السلطان، وهذه مشكلة أخرى؛ فالحجاب في الأصل سمة المسلمات وهو الذي يميزهن عن غيرهن، ولا يعرف أن المسلمين طالبوا غير المسلمات بالحجاب - كاليهوديات اللاتي كن كثيرات في المدينة -، ولا يعرف أن أياً من الخلفاء الراشدين في بلاد الفتوح أوجب الحجاب على غير المسلمات، كون الحجاب فرعاً عن الشريعة كالصلاة والزكاة والصيام والحج، يطالب به المسلمون وليس غيرهم، إلا إذا حصل تبرج يخدش الحياء، فهنا يؤمرن بالستر وقد تعارفت المجتمعات الإسلامية على هذا.

وأضاف: يكون لبعض الاجتهادات قراراً في النفوس ويصعب مراجعتها مع احترامنا الكثير لأصحابها، ولا نذهب بعيداً فالتصوير في المدرسة السلفية في جميع دول الخليج تقريباً كان محرماً ولم يخرج مشايخنا السابقون في التلفاز لأنهم يعتقدون جزماً حرمة ذلك، حتى إنهم يؤكدون النكير على ذلك في مباحثه المودعة في مباحث العقائد ويعتبرونه من الكبائر التي جاء الوعيد الشديد فيها، ثم تغير الحال، وكل منهم على خير - إن شاء الله - فهم قطعاً يريدون الحق، لكن من جاء بعدهم لم يجد غضاضة في مخالفة رأيهم مع أنه من مسائل كبائر الذنوب، ويبحث في العقائد، وقد يكون عند المانعين أشد وأخطر من قضية الاختلاط.

وتابع الدكتور المشاري: بأنه ما أساءني مثلما أساءتني إجابة أحدهم في مناظرة عابرة في الشبكة العنكبوتية حول موضوع الاختلاط يقول فيها من يدعي أنه أستاذ في الفقه عندما سرد من أجاز الاختلاط بضوابطه الأدلة على ذلك وهي في الحقيقة حجج لا يجادل فيها إلا مكابر ومن ذلك ما سبق ومنه تحديداً وهو الذي هيج المناظر ما بوبه البخاري في صحيحه بقوله: (باب عيادة النساء الرجال)، وذكر حديث عائشة وأم الدرداء رضي الله عنهما، لقد علق هذا الأستاذ بقوله نصاً: (هذا عندنا اليوم اختلاط محرم ويفسد مجتمعاتنا) فعلقت بدوري بعد أن قف شعر رأسي قائلاً: (لماذا لم يفسد المجتمع النبوي الشريف)، فرد علي قائلاً: (لأنه طاهر مطهر)، فقلت له (المعيار هو العصمة ولا عصمة في هذا لأحد وإلا لما حرمت الشريعة على الناس جميعاً الخلوة بالأجنبية، ولما أمرت بغض البصر وحفظ الفرج لنا ولعصر النبوة الطاهر المطهر)، فقال: (نحن نسد الذرائع)، فقلت: (هذا عدول منك عن تنظيرك الأول بما فيه من مجازفة في القول وخطورة ولكن ما هي الذرائع)، فقال: (ذرائع الوصول إلى المحرم)، فقلت: (ما ضابط سد الذريعة؟) فقال: (أن يغلب على الظن حصول المفسدة منها) فقلت: (ومن يقرر ذلك)، فقال: (الناس) فقلت أي ناس؟ فقال: كل المجتمع (فقلت) المجتمع الواحد فيه الكثير من الآراء ولا تمثل هذه التحوطات كل شرائحه وهذا لا بد له من استفتاء وليس هناك من وصي على المجتمع لكن هناك ولي أمر، فقال: (للعلماء نصيب في هذا) فقلت: أي علماء قال علماء كل بلد، فقلت: إذاً صار سد الذريعة غير منضبط في أمر يتعلق بالغريزة التي لا تعرف لا براً ولا فاجراً في احتياطاتها، وقد نجد الاحتياط والمنع الكامل في بلد يغلب عليه الخير، بحكم نشأته وسلامته من اللوثات الاستعمارية، بينما لا يرى ذلك علماء بلد آخر ويلغون المصالح الموهومة في نظرهم ولا يعتبرونها مع أن مجتماعتهم بفعل الاستعمار الأجنبي أولى بالاحتياط والتحفظ، وأنت بين أن تجهلهم أو تشك في حرصهم على حرمات الدين والغيرة على مجتماعتهم مع وجود ما يسمى بهامش الحرية الكبير لديهم في قول كل ما يريدونه، فقال: (ليس هناك حرص وعلم يعول عليه إلا عند من نعتقده وهو المرجع)، فقلت: (لك هذا، لكن لا تلغ غيرك، فإن لهذه النزعة الإقصائية من الشرر والتبعات ما لا تدركها جهلاً أو تجاهلاً وهذه شرارة التكفير والإرهاب والانعزال، حيث تتطور إلى سلسلة من المتلازمات المتتابعة حتى تصل إلى أمور خطيرة)، فقال: (لا بد من مركزية في الفتوى وألا تكون فوضى) فقلت: (نحن معك في هذا لكن ليس على إطلاقه فشرع الله رحب واسع، والفتوى غير ملزمة وهذا الفرق بينها وبين القضاء، ولا يمكن الإلزام بها إلا وفق نظرية ولاية الفقيه، وقد اختلف الصحابة في مسائل عالية ولم يكن فيهم من افتتن بقول فلان أو علان بل لم يأت في شرع الله أن قول أحد من العلماء ينهي مادة الخلاف ولا يسع غيره إلا الخضوع له فيما عدا رفع الحاكم الخلاف فيما يتعلق بقضايا العموم لحفظ البيضة وحسم ما قد يكون وراء ذلك من مادة الشر، بعد أن يطمئن قلبه للرأي، وقد نقلت له ما جاء عن وابصةَ الأسديِّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا وابصةُ، اسْتَفْتِ قلبَك، واستفتِ نفْسَك ثلاث مرات؛ البِرُّ ما اطمأنتْ إليه النفسُ، والإثمُ ما حاكَ في النفْس، وتَرَدَّدَ في الصدر، وإنْ أفتاكَ الناسُ وأفتَوْكَ، وقلت له إن مذهب أهل السنة عدم العصمة لأحد غير أنبياء الله، ويترك الناس لما يطمئنون إليه من العلماء بل إن الكتاب الكريم وبخ من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال الله ورسوله وتقولون قال أبو بكر وعمر، وعند أحمد في المسند: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا يَقُولُ عُرَيَّةُ قَالَ يَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)، كما سقت له قول العلامة ابن القيم: لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتِي إذا لم تطمئنَّ نفْسُه، وحاكَ في صدره من قَبوله، وتَرَدَّدَ فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (استفتِ نفسكَ، وإن أفتاكَ الناس وأفتَوْكَ)، فيجب عليه أن يستفتيَ نفسه أوَّلاً، ولا تُخَلِّصه فتوى المفتي منَ الله، إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: مَن قَضَيْتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذْه، فإنما أقطع له قطعة من نار، والمفتِي والقاضي في هذا سواء.

وقلت له: (إنه يلزم العالم أن يحذر من شهوة المنصب والشهرة وسلطة الأمر والنهي، وهذا الذي يجعل بعض العلماء يغفل عن سبب ضيقه وضجره من الأخذ بخلاف رأيه) وإلى هنا انتهى حواري معه، ولعله ممن يصدق فيه قول إلكيا الهراسي: (إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح).

وتابع الدكتور المشاري: لقد توسعت هذه الأمور ووصلت حتى التجهيل بل والتكفير وطال هذا كبار علماء الأمة كابن تيمية حيث أوذي بسبب مخالفته للرأي السائد لمتعصبة التقليد في عهده فذهب أثرهم وبقي أثره، ومعلوم أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يسلم من النيل منه والأخذ عليه حتى من داخل سلفيته، عندما أفتى بجواز حج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وذلك أنه رحمه الله فهم مقصد الشريعة من النهي عن السفر بدون محرم، صار النكير على من أفتى من السلفيين بجواز ركوب المرأة مع السائق وحدها داخل المدينة ما دام من في الطريق يرى من بداخلها، ومن أفتى بجواز كشف المرأة وجهها، واتهم أصحاب هذه الفتاوى بالدعوة للفساد والانحلال، والكل يدعي الحق، لكن إشكالية الجدل الفقهي تصل إلى نقطة حمراء عندما تبادلون في هذا التهم حتى تصل للمعتقدات، حيث التفسيق والتبديع وأحياناً التكفير، وهذه الأمور يصعب أن تنتهي بالنصائح العابرة كهذه النصيحة بل لا بد لها من قوة توقفها عند حدودها، لقد تطور الأخذ على الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه إلى كارثة إسلامية كبيرة، وكان بعض أبناء الصحابة ممن شارك في لوك عرض عثمان وفتح شهية المغرضين، هذه حقائق التاريخ، لكن يجب أن نقطع مادة الشر، وأن تشيع ثقافة الحوار والانشراح العلمي، ما دام على المنهج الإسلامي الصحيح، وألا نحقر غيرنا، ونغتر بما عندنا، وتغلب علينا شهوة سلطة الأمر والنهي باسم دين الله، ولن يسألنا الله عن قول فلان ولا علان لكن سيسألنا عن دينه من كتابه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وختم الدكتور المشاري قائلاً: لا يخلق الله شراً محضاً فقد تولد من خطأ طرفي النقيض، منطقة الوسط التي أرادها الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، وهناك من يتعصب لمذهبية أو إقليمية وعندما تتغير بيئته العلمية والأحوال والأعراف تتغير قناعاته السابقة، وقد تغيرت آراء علماء كبار، وهم أبعد الناس عن التعصب والهوى فالشافعي رحمه الله كان له رأيان قديم في العراق وجديد في مصر.

لكن هناك أناس من طبيعتهم إثارة الشكوك وإساءة الظن بالناس وتصنيفهم ليكونوا أحزاباً شتى، كل حزب بما لديهم فرحون، وقد تحدث عن هذا إمام وخطيب الحرم المكي الشريف الشيخ عبد الرحمن السديس بارك الله في علمه وبيانه، وسعدت برؤية فضيلته والاستماع إليه، ولمست فيه حرصه على الاجتماع والألفة، وهذا هو منهج سلف الأمة ومعتقدهم الذي لا يخالفهم فيه إلا المبتدعة ومنهم الخوارج.

لقد عملت في السويد عدة سنوات وما جلب كثيراً من الناس نحو الإسلام إلا يسره وتميز تعاليمه، وحسن التعامل مع الجميع، وأنا على يقين لو اطلع أحد من تلك الجاليات على ما ذكرنا هنا من جدل ونقاش واحتدام على قضايا كهذه القضايا لتأثروا سلباً، نعم لا بد من فتوى وعلماء وكل مسلم يأخذ منهم ما تطمئن إليه النفس دون هوى وتلفيق وتتبع للرخص، ولا بد من رفع الخلاف من الحاكم في القضايا العامة وعدم تركها معلقة، وبهذا نسير في الطريق الصحيح، ونحترم غيرنا وتنتظم أحوالنا، ونسمو بديننا وعقولنا، ونترك المهاترات واللغط، فقولك يخالفك فيه غيرك، وقول مذهبك الفقهي يخالفك فيه المذهب الآخر، وقول فئتك مخالف بقول فئة أخرى، وهلم جرا في سلسلة متصلة لا تنتهي من تعدد الآراء والتشنيع على الآخرين، تصل في بعض الأحيان إلى التكفير عن طريق التلازم.

وقال: إن حمل الناس على الآراء نقص في الدين وسفه في العقل، لكن من أساء ولغط فيما رفعه ولي الأمر من شأن الخلاف وجب حتماً تأديبه، والأهم عدم الخروج عن معتقد أهل البلد الذي لا يشك أحد في أنه من الاعتقاد، الذي يحمي حوزته ولي الأمر بعون الله وتأييده له، فهذا في قائمة الأمور العامة المحسومة سلفاً بأمر دستور الدولة ونظامها، ولا تقبل الطرح المخالف، وما أحوجنا لدروس تربوية في أدب الخلاف لا تقل عن ساعات دروسنا في مسائل العلم، فالأدب حلية وزينة له آداب وقواعد، والحمد لله لديكم في المملكة العربية السعودية علماء دعاة خير أفاضل، صادقون في سلفيتهم، التقينا بهم في الحج عدة مرات واستفدنا منهم كثيراً، يتمتعون بالعلم والفضل والخلق، وهذا ليس بغريب على الديار المباركة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد