Al Jazirah NewsPaper Saturday  07/11/2009 G Issue 13554
السبت 19 ذو القعدة 1430   العدد  13554
بين سطور الأزمة العالمية
في قراءة اقتصادية لواقع الحال بعد مرور أكثر من عام على الأزمة

 

الجزيرة - عبد الله البراك:

عُقد مؤخراً العديد من الندوات وتحدث العديد من المختصين في المجالين المالي والاقتصادي وكثرت التكهنات حول ما إذا كان العالم قد تجاوز المرحلة الأصعب في أزمة المال العالمية، وجاءت هذه التكهنات عقب أحاديث أدلى بها سياسيون خلال الأسابيع الماضية، والمتابع لهذه المؤتمرات يتبادر إلى ذهنه عدة أسئلة منها: هل تجاوزنا الأزمة المالية العالمية فعلاً.. وهل كانت الحلول الدولية ناجحة.. وعلى ماذا بُنيت هذه التكهنات؟.. خصوصاً أن المتلقي فقد الثقة مؤخراً من جراء هذه الأزمة بالمحللين الماليين والاقتصاديين.. أستاذ الاقتصاد بجامعة الإمام محمد بن سعود الدكتور عبد الرحمن السلطان يؤيد ما ذهب إليه هؤلاء الاقتصاديون والساسة خصوصاً أن إشارات التحسن والتعافي الاقتصادي ظهرت للعيان سواء في الحركة التجارية الدولية أو من خلال المؤشرات الاقتصادية، وقال السلطان: عندما نتساءل عن موقعنا من الأزمة العالمية وإلى أي مرحلة وصلنا؟.. فإننا بحاجة أولاً إلى تحديد ما نعني بالأزمة المالية، فأزمة المال العالمية كانت حالة من الرعب التي اجتاحت العالم خشية من أن تؤدي الصعوبات المالية التي تعرضت لها المصارف والمؤسسات المالية الأمريكية إلى انهيار في النظام المالي العالمي وكساد اقتصادي حاد كما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي خلال ما عُرف بالكساد العظيم حيث ارتفعت معدلات البطالة الأمريكية مثلاً إلى حوالي 40% وانكمش الاقتصاد الأمريكي بحدة بحيث أصبح حجمه في عام 1934 حوالي نصف حجمه في عام 1929، هذا الاحتمال غير وارد الآن مطلقاً والحديث الآن هو فقط عن المدة التي يحتاجها الاقتصاد العالمي للخروج من حالة الركود الاقتصادي الحالية، من ثم فنستطيع بالتالي القول بأن الأزمة المالية قد شارفت على الانتهاء وأن الأسوأ منها قد مرَّ.

وأضاف السلطان بأن العالم بحاجة الآن إلى دراسة مستفيضة متمعنة لأسباب حدوث هذه الأزمة ليعي الدروس المستفادة منها تحاشياً لتكرارها، فمن الواضح أن أهم أسباب هذه الأزمة هو الإيمان المفرط بالحرية الاقتصادية التي طالب بها مناصرو النظرية التقليدية الذين رأوا أن التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي هو دائما المشكلة ولا يمكن أن يكون الحل، وأنه يجب أن تترك الأسواق لتعالج مشاكلها بنفسها، وقد أثبتت هذه الأزمة بما لا يدع مجالاً للشك بأن القطاع المالي يجب أن تفرض عليه نوعاً من الرقابة وأن يخضع لتشريعات صارمة تحد من إمكانية حدوث تجاوزات، فالأزمة العالمية انطلقت للعالم من القطاع المالي وتسببت في بالغ الضرر في الاقتصاد الحقيقي، ولو كان القطاع المالي في الولايات المتحدة خاضعاً لدرجة كافية من الرقابة والتشريعات لربما لم تكن هذه الأزمة حدثت أصلاً.. أما السؤال عن مدى فاعلية السياسات والإجراءات التي اتخذت عالمياً للتعامل مع الأزمة فنستطيع أن نقول إن هذه السياسات والإجراءات كانت فعَّالة إلى حد كبير ونجحت في تجنيب الاقتصاد العالمي كارثة محتملة، فقد استفاد العالم من تجربة الكساد العظيم وبالتالي تبنت الدول المتضررة سياسات نقدية ومالية توسعية أسهمت في إعادة الاستقرار للنظام النقدي والمالي ومنعت الاقتصادات العالمية من الدخول في موجة كساد اقتصادي حاد كان من المؤكد حدوثه لو لم تتخذ هذه الإجراءات بصورة عاجلة.

من أين انطلقت الأزمة المالية؟

وحسب تحليل الدكتور عبد الرحمن السلطان أن الأزمة بالفعل انطلقت من القطاع المصرفي ولكن الخطأ لا يقع على عاتق البنوك وحدها ولكن يقع أيضاً وربما بصورة أكبر على عاتق السلطات النقدية في تلك البلدان التي لم تضع التشريعات التي تضمن عدم حدوث مثل هذه الأزمة اعتقاداً منها بأن القائمين على هذه المؤسسات المالية سيضعون مصلحة الأجهزة التي يقومون بإدارتها نصب أعينهم دائماً.. وهذا لم يكن الواقع، حيث كانوا معنيين بصورة أكبر بحجم المكافآت التي يحصلون عليها على ما يحققونه من أداء في المدى القصير متجاهلين ما قد يترتب على ذلك من مخاطر في المدى الطويل، وكذلك إيمان تلك السلطات المفرط بقدرة السوق على تحقيق الصالح العام دون تدخل حكومي أو بأقل تدخل ممكن.. الأمر الذي ترتب عليه أن أصبح لدينا أسواق وأدوات مالية في غاية التطور والتعقيد دون أن يواكب ذلك تشريعات بنفس التطور، إلى حد أن أحدهم وصف الوضع بأنه أدوات مالية تعود للقرن الواحد والعشرين تراقبها تشريعات تعود للقرن العشرين، ما أضعف الرقابة وزاد من إمكانية حدوث الأخطاء والتجاوزات.

الحلول الدولية مقابل الحلول المحلية

كانت هناك حاجة لحلول محلية في الدول المتضررة تمثلت في اتباع سياسات توسعية نقدية ومالية لاستعادة الاستقرار في النظام المالي والنشاط الاقتصادي، إلا أن أحد الدروس المستفادة من هذه الأزمة أنه في ظل العولمة وما ترتب عليها من ترابط اقتصادي بين دول العالم فإن حدوث مشكلة في اقتصاد ما، خصوصاً إذا كان اقتصاداً رئيساً، لا يقتصر الضرر على ذلك الاقتصاد وإنما يتعداه إلى اقتصادات أخرى، ومن ثم فقد ظهرت الآن الحاجة إلى وجود تشريعات رقابية دولية على النظام المالي العالمي ما يضمن تناغم التشريعات الوطنية ويوفر رقابة دولية على النظام المالي المحلي والعالمي، ويرى الدكتور السلطان أن ذلك يعني بالضرورة إعطاء صندوق النقد الدولي دوراً رقابياً على النظام المالي العالمي ما يعزز الثقة في هذا النظام ويضمن عدم وقوع تجاوزات لا يقتصر ضررها على اقتصاد بلد بعينه وإنما يتعداه إلى الاقتصاد العالمي برمته.

أوجه الاختلاف بالحلول الدولية وجدواها

يرى الدكتور عبد الرحمن السلطان أن الحلول الدولية كانت متقاربة واستهدفت إعادة الاستقرار للنظام المالي والنقدي من خلال ضخ كم هائل من السيولة في هذا النظام لتجاوز مشكلة توقف الائتمان وانهيار المؤسسات المالية.. كما استهدفت أيضاً تعويض الانخفاض في الطلب الكلي على السلع والخدمات نتيجة تراجع أداء القطاع الخاص، وذلك من خلال خطط تحفيزية تمثلت في نمو كبير في الإنفاق الحكومي أسهم في استقرار الطلب الكلي وحدَّ من إمكانية حدوث ارتفاع كبير في معدلات البطالة.. وحول الفرق في خطط التحفيز التي أقرها عدد من الدول الصناعية وخطة التحفيز التي اتخذتها المملكة، ذكر السلطان أن هناك فرقاً أساسياً بينهما، فالسياسات المالية التي اتخذت في الدول الصناعية المتضررة بشكل مباشر من هذه الأزمة استهدفت، وكما أشرنا سابقاً، إلى تعويض انخفاض الطلب من وحدات القطاع الخاص بزيادة الطلب الحكومي على السلع والخدمات، أما بالنسبة لنا في المملكة فإن طبيعة الاقتصاد مختلفة تماماً حيث إن نشاط القطاع الخاص معتمد بشكل مباشر على نشاط القطاع الحكومي وأكبر تهديد كان يمكن أن يتعرض له الاقتصاد السعودي هو أن تقوم الدولة بتخفيض الإنفاق الحكومي الذي يعني آلياً تراجع نشاط القطاع الخاص وبالتالي مفاقمة تأثير هذه الأزمة على الاقتصاد السعودي، إلا أن الدولة بقرارها الحكيم بعدم تخفيض هذا الإنفاق، بل الواقع زيادته بصورة كبيرة خلال عام 2009، حيث يتوقع أن يكون الإنفاق الحكومي مرتفعاً هذا العام بحوالي 20% مقارنة بمستوياته عام 2008، فقد ضمن ذلك أن يكون لهذه الأزمة المالية تأثير محدود على الاقتصاد السعودي.. والحقيقة أن توقيت هذه الأزمة كان مناسباً جداً بالنسبة لنا في المملكة، حيث أتت هذه الأزمة بعد نمو كبير متواصل لعدة سنوات في إيراداتنا النفطية، ما مكَّن الدولة من بناء فوائض مالية كبيرة يتم الاستفادة منها الآن في تمويل الإنفاق الحكومي، وبالتالي لسنا مضطرين لتخفيض هذا الإنفاق أو الاقتراض لتمويله.. وحول ما إذا كان من المناسب الآن التراجع عن خطط التحفيز التي أقرتها معظم الدول المتضررة رأى الدكتور السلطان أن من المبكر جداً القول بأن هذه السياسات قد استنفدت جدواها.. وبالتالي أصبح من المناسب التفكير في إيقافها أو تخفيض حجمها، فيجب أولاً أن تظهر بوادر انتعاش حقيقي في الاقتصاد العالمي قبل التفكير في مثل هذا الإجراء، وعلى الأرجح فإن بعض الاقتصادات المتضررة، الاقتصاد الأمريكي والبريطاني بشكل خاص، قد تكون بحاجة إلى إقرار خطط تحفيز جديدة لضمان عدم دخول هذه الاقتصادات في موجه انكماش جديدة، فلو حدث ذلك سيكون من الصعوبة استعادة ثقة الأسواق مرة أخرى بقدرة الحكومات على التعامل مع الأزمة ما قد يطيل مداها ويفاقم تأثيرها.

استخدام السياسات النقدية والمالية لمعالجة الأزمة

وحول استخدام السياسة النقدية يرى الدكتور عبد الرحمن السلطان أن السياسة النقدية التوسعية التي تبنتها معظم الدول المتضررة بهذه الأزمة كانت فعَّالة بشكل كبير حيث أسهمت في توفير السيولة وتخفيض معدلات الفائدة بشكل كبير وشجعت المصارف على معاودة عمليات الإقراض من جديد حيث إن هذا التوقف كان يمثل تهديداً خطيراً للعديد من الاقتصاديات الصناعية.. أما في الدول النامية فإن إمكانية الاعتماد على السياسة النقدية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي فهي أقل بكثير من تلك المتاحة للدول الصناعية المتقدمة، وبالتالي فإن هذه الدول تعتمد عادة بصورة أكبر على السياسات المالية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، إلا أنه يعيق استخدامها عادة ضعف أسواقها المالية وبالتالي عدم قدرتها على تمويل الإنفاق من خلال الاقتراض، كما أن انفتاح اقتصاداتها يجعل لمثل ذلك نتائج خطيرة على ميزان مدفوعاتها واستقرار عملتها الوطنية، لذا فإن الدول النامية تستطيع استخدام السياسات المالية بفاعلية أكبر عندما يكون لديها فوائض مالية كما هو الحال في المملكة حالياً.

إلى متى ستستمر آثار الأزمة؟

يرى الدكتور السلطان أن الاقتصاد العالمي سيستطيع تجاوز هذه الأزمة على الأرجح خلال عام أو عامين، وستعتمد السرعة التي يستطيع بها الاقتصاد العالمي التعافي على السرعة التي يستطيع بها القطاع الخاص في الدول الصناعية بدء تحقيق معدلات نمو إيجابية تسمح بوقف خطط التحفيز الحكومي.. فالخطط التحفيزية تمثل تهديداً خطيراً لهذه الاقتصادات في حال استمرارها لفترة طويلة، لما يترتب عليها من عجز في الميزانية وارتفاع في الدين العام، الذي يعني دون شك معدلات عالية من التضخم مستقبلاً ستضطر معه حكومات تلك الدول لرفع معدلات الفائدة بشكل سريع، ما سيؤثر سلباً على عملية التعافي وبالتالي يتسبب في إطالة المدة التي سيحتاجها العالم لتجاوز هذه الأزمة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد