في جامعة (سان دييغو الحكومية) بولاية كاليفورنيا الأميركية، كان أستاذنا (بيرنارد دودج)، ونسميه:
(بيرني)، يدرسنا مواد (الحاسوب التعليمي CAI وCMI، ويقول لنا: إن ما أدرسه لكم في بداية الفصل الدراسي سيكون قديما آخره؛ فعليكم أن تنسوه.
** أشار إلى تسارع التغيير، أو ما اصطلح على تسميته (الثورة المعلوماتية)، وفيما عددنا أنفسنا علماء في بعض جزئيات الحاسوب، مضى بنا الزمن، وشغلنا بأعمال إدارية وأكاديمية وإعلامية بعيدة عن التخصص الدقيق، ثم اكتشفنا أننا بحاجة إلى (دروس في محو الأمية الحاسوبية)؛ ففي كل ساعة مئات الحقائق والإضافات الجديدة.
** وفي مقابل النقلات التقنية العاصفة، مرت الثقافة بفترات استرخائية ساد فيها التقليد وتوارى التجديد، وجوبهت حركات التحديث بحراب كادت تتحول إلى حروب، وظللنا أسرى التنميط الفكري الذي قاده مجموعة الوعاظ والخطباء غير المتخصصين، وتبعهم العامة المندفعون، وكادوا يلغون محاولات التنوير التي تقوم بها جهات ومنتديات وأفراد، وحوصر النتاج الفكري المتجاوز حدود القبيلة الاجتماعية الراضخة لسلطة الأحادية المعرفية.
** كان (معهد الإدارة) في مرمى السهام، ولا يشك متابع أن ما أصابه من تغيير (بعد عام 1416هـ) كان استجابة لضغوط الجماعة المهيمنة، وكانت (الحداثة) - بوصفها فعلا ثقافيا مجردا- في المرمى كذلك، وتشخصنت القضايا؛ فصار المطلوب إبعاد المسؤول الفلاني، ومهاجمة الكاتب الفلاني، والتخويف من غد المجتمع التائه بين الآفاق والأنفاق.
** لم يتأثر المعهد كثيرا، واحتفلنا - قبل أيام- بيوبيله الذهبي، وعاد الفكر (ما بعد الحداثي) للواجهة، واستمر إيقاع الحياة، ولم تصنع تلك (المزايدات) سوى تأخير التنمية الإدارية والثقافية التي نتمنى تعويضها في مشروعات متسارعة تلحق بما فات من إنجازات.
** عاد التوازن النسبي إلى قنوات التوجيه والتعليم والإدارة، وصار الحوار - بمختلف مساراته- مقبولا، أو على الأقل، غير متشنج، محاولا النأي عن التصنيف، ساعيا لإعمال حسن الظن، حريصا على تجسير المسافات بين التوجهات، وبات للتقنية دورها؛ فلم تحتكر لتيار أوحد، وأصبح للجميع حق (البث المباشر)، مثلما لغيرهم حق (الرد المباشر) كذلك، وهذا سبيل الحوار الحي بين الأحياء دون استعداء أو تخوين أو مصادرة.
** قال أستاذنا الأميركي قولته، وصدق، وربما جاز لنا التقارب معها قليلا؛ فما هو متفق عليه اليوم - بصفته ممارسة شعبية سائدة - سيكون مختلفا حوله غدا، وقد يزيد أو يبيد، وسيعجب راصدو التحولات التاريخية الثقافية أننا قد تجادلنا يوما على قضايا ثم اتفقنا عليها، غير آبهين بمصير الأحكام والخطب والمؤلفات والتسجيلات التي وصلت أو أوشكت تصل لحد القداسة.
* الحقيقة لا تدين لأحد.
Ibrturkia@gmail.com